الثلاثاء، 28 مايو 2013

ماذا لو..

(ماذا لو..)

مسرح كبير أبطاله متعددون: رجل يصرخ "اعدموني أنا وأولادي"، وامرأه تجمع علب المشروبات الفارغة لتبيعها وتسد بها رمقها، وطفل يجوب المطاعم طلباً للمساعدة في إعالة أسرة كبيرة العدد، وشاب يفترش المساجد طلباً لعلاج ابنته المريضة بالسرطان، وأم تبكي في برنامج صباحي شهير طالبة منزلاً يأوي أيتامها، وخامس وسادس وعاشر.

الجمهور يتفاعل مع كل مشهد على حدة بقدر كبير من الحماس والعاطفة، ثم يعود لإغفاءة قد تطول بانتظار المشهد اللاحق. هذا يدق صدره إظهاراً لكرم حاتمي لحظي، وتسيل دموع الآخر إظهاراً لوطنية زائدة، ويجد فيها (المبرّراتية) فرصة للموالسة والنفاق على اعتبار أن كل شيء تمام، وأن  كل أولئك مدّعون ناكرون للجميل،  بينما يسعى البعض لإثبات  نظرية "فطريقك يا ولدي مسدود مسدود مسدود"،  على اعتبار أن كل جهود الحكومة وخططها فاشلة، وكأننا نعيش في جبال المريخ، وليس في دولة عصرية حديثة انجازاتها تفوق سلبيات أدائها بملايين السنين الضوئية، بينما بقية الجمهور القابعون في الصفوف الخلفية تائهون بين هذا وذاك من منطلق "أخويا هايص وأنا لايص".

أنهار من الحبر تسيل حول أهمية الزكاة والصدقة والتكافل، وتسجيلات تكتظ بها دواليب الاذاعة والتلفزيون تناقش الخطط المأمولة من الحكومة في المرحلة القادمة، وتغريدات هنا وهناك تعلق على هذه المشاهد. وماذا بعد؟ لا شيء، ينسى الجمهور كل شيء بانتهاء العرض بانتظار عروض أخرى قادمة قد تكون أكثر تشويقاً وإثارة.
وكالعادة، كل ذلك يدور حول نتائج المشكلة، ولكنه لا يقترب من أسبابها أو جذورها، وحتى الحلول التي تطرح هي حلول وهمية غير واقعية في الغالب، فمع كل التقدير لكافة الجهود المجتمعية المبذولة في مجال العمل الخيري، إلا أننا لا يمكن أن نعول عليها وحدها كحل لمواقف كهذه، كما أننا لا يمكن كذلك أن نطالب الجميع أن يتمسك بالقيم والعادات والتقاليد والتكافل الاجتماعي، فهذه أشياء لا تغرس بالكلام وحده، ولا يمكن أن نبني عليها حلولاً علمية.

دعونا نتفق على أنه لا يوجد مجتمع فاضل، كما أنه لا توجد عدالة اجتماعية كاملة، ولكن بشيء من الخطوات العلمية الجادة والمدروسة يمكن لنا أن نحقق بعضاً من ملامح هذه العدالة، لن أتحدث عن دور التعليم والقيم والهويّة والمواطنة في هذا المجال، فذاك حديث يطول، فقط سأكتفي ببعض الجوانب التي تلامس أطراف المشكلة، ويمكن لها أن تسهم في الحد منها على الأقل، وخذ معك على سبيل المثال:
ماذا لو فكّر برلماني مشاغب في قراءة المادة (12)  من مواد النظام الأساسي والتي تنص إحدى فقراتها على أنه "تكـفل الدولة للمواطن وأسرته المعونة في حـالة الطوارئ والمرض والعجـز والشيخـوخـة، وفقـاً لنظـام الضمان الاجتماعي، وتعمل على تضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة"، وتصدى لتعديل أحد القوانين المتعلقة بالجوانب الاجتماعية التي تهم المواطن والتي أكل منها الدهر وشرب، ولم تعد تناسب المرحلة الحالية، ولنفترض أنه قانون "الضمان الاجتماعي" على سبيل المثال، ثم تبعه آخرون لتعديل أو سن بقية القوانين المنظّمة لهذا المجال.

ماذا لو كان لدينا مركز للمعلومات ودعم اتخاذ القرار، يقدم المعلومات والبيانات والاحصاءات الكافية المتعلقة بالقضايا الاجتماعية المختلفة، من خلال دراسات مسحية علمية محكمة واستطلاعات رأي يقوم بها باحثون متخصصون (وما أكثرهم)، وبالتالي تستند عليها الحكومة عند وضع خططها في هذا المجال.

ماذا لو تغيرت النظرة العامة تجاه قطاع الإسكان بحصرها في تخطيط وتوزيع الأراضي مع أنها مهمة يمكن أن تقوم بها المجالس أو المؤسسات البلدية في المحافظات والولايات ، وكذلك المساهمة في بناء بعض المساكن المتعلقة بفئة الضمان الاجتماعي، مع أن مسألة المسكن صارت أحد مؤشرات ميزان التنمية البشرية، وأن توفير المسكن بالإضافة إلى التعليم والصحة يشكلوا ثالوثاً اجتماعياً مهماً لا يجب التفريط في أحدها.

وماذا لو قامت الوزارة بكوادرها ومستشاريها وخبرائها وموظفيها بابتكار عشرات الحلول الفعلية والناجعة لحل أزمة الإسكان (وهي كثيرة وناجعة) بدلاً من الاكتفاء بمنح قطعة أرض نائية تزيد تكاليف دفع رسومها عن قيمتها الحقيقية

ماذا لو ركزت  برامج التنمية الاجتماعية على حقيقة هامة وهي أنه  في كل قرية في عمان توجد أسرة منتجة، بحاجة إلى من يقف معها ويوجّهها، ويطوّر من قدرتها، ويسوق إنتاجها بشكل واقعي بعيداً عن البهرجة الزائفة،  وماذا لو قامت الوزارة المعنية بحصر حقيقي للفئات المحتاجة للدعم الاجتماعي والاقتصادي في البلد، وتبنّت خططاً واقعية لإيصال الدعم لهذه الأسر، ناهيك عن قضايا أخرى لا يتسع المجال للحديث عنها هنا.



ماذا لو كانت لدينا تكاملية في أدوار المؤسسات التي يهمها شأن المجتمع المحلي، بدلاً من أن يغرد كل منها في سربه الخاص، وتكون النتيجة خططاً هزيلة تقترب من الواقع ولا تلامسه.


آلام الآخرين لا يمكن أن تكون مسرحاً نستعرض فيه تمسّكنا بالقيم، ومدى حرصنا على التكافل الاجتماعي، بعضاَ من الخطوات العلمية الجادّة يمكن أن تسهم في حل كثير من هذه القضايا. والأهم هي الرغبة في ذلك.فقط ماذا لو.

الثلاثاء، 21 مايو 2013

بنصف عين


"بنصف عيــن"

قلت له مازحاً: أهل لديك طريقة مثلى كي أصبح من أصحاب الأموال بدون أن أرهق نفسي أو أحملها ما لا تطيق من التعب والعناء، خاصة وأنني لست لاعباً مشهوراً، أو فناناً معروفاً، أو أديباً مقرباً.

قال لي وهو يبتسم: الأمر سهل. مخزن منزوٍ عن الأنظار مع كمية كافية من الأكياس البلاستيكية وبضعة أختام وتواريخ مزورة، وبضاعة فاسدة أو رديئة أو منتهية الصلاحية، وسيتحقق لك كل ما تحلم به. هي الموضة السائدة في هذه الأيام. فقط احذرهم،  يقولون إن سرهم (باتع) هذه الأيام، ولديهم القدرة على كشف المستور. تعرف من أقصد بالطبع.

قلت له: ربما تقصد "حماية المستهلك"، برأيك ما السر في نجاحاتهم المتوالية في الكشف عن كثير من القضايا التي تهدد الاقتصاد الوطني، وقبله صحة وسلامة المستهلك في هذا البلد. هل صحيح الكلام الذي يقال عن الميزانية المفتوحة،  والطلبات التي لا ترد.
أجابني ضاحكاً: وماذا لو قلت لك إنها تعمل بنصف عين فقط؟ ثم أردف وهو يعتدل : شوف. دعنا نتفق أن الحكومة جادة ومهتمة بحماية المستهلك، وتسعى لتوفير كل ما من شأنه إنجاح عمل الهيئة وتحقيق أهدافها المنوطة، ولكني أعتقد أن النظرة العامة لهذه الهيئة وأدوارها المهمة لم تتبلور  بشكل واضح في أذهان المجتمع وكثير من مؤسساته وأفراده. ما زال البعض لا يعي حجم (البلاوي) التي تمارس من قبل بعض المتنفّذين في مجال الاقتصاد المحلي وخطورة ذلك عليه، وما زالت هناك فئة لا تعرف الاختصاصات الحقيقية الحالية للهيئة وتلقي عليها باللوم في كل مصيبة تحدث، هل تعلم أن الميزانية السنوية للهيئة لا تتجاوز المبلغ المرصود لبند التدريب في إحدى الوزارات، وأن معظم هذه الميزانية يذهب كرواتب ومصروفات جارية. هل تعلم أن عدد الأخصائيين والمفتشين قد لا يتجاوز المائتين، وهو رقم  لا يتناسب مع العدد الكبير جداً من المحلات التجارية والتي يبلغ عددها مئات الآلاف على مساحات ممتدة في كل أرجاء الوطن، بل إنهم معرضين لكثير من المخاطر الصحية والجسدية. هل تعلم أن الهيئة لا تمتلك أية مختبرات أو معامل بحثية يمكن الاستفادة منها في عمليات فحص السلع والبضائع والحكم على مدى صلاحيتها، أو كشف بعض العيوب التصنيعية في السلع المختلفة كالسيارات والأجهزة وغيرها، هل تعلم أن هناك  قلة في عدد  الكوادر المتخصصة في المجالات الفنية كالهندسة والتغذية والقانون ، يصاحب ذلك عشوائية في التعيين بالرغم من تخصصية المجالات التي تتبع اختصاصات الهيئة، هل تعلم أنها  لا تملك الصلاحية في الرقابة على البضائع التي تدخل من خلال المنافذ المعتمدة، أو على الإعلانات التجارية، والعروض الترويجية التي يتخذ كثير منها طابع الغش والتضليل. ولن أحدثك طبعاً عن  القانون الحالي الخاص بحماية المستهلك والملاحظات المتعلقة به، أو التحديات المتعلقة بالمستهلك نفسه ومدى امتلاكه للوعي الاستهلاكي المناسب. باختصار الهيئة ما زالت تعمل بنصف عين، قد يكون كونها هيئة جديدة جعل من أخبارها ذات تأثير على  الرأي العام، ولكن الأهم من ذلك أنها تتمتع بكاريزما قيادة قد لا تتوافر لدى كثير من أعضاء الحكومة الجديدة. القيادة في الهيئة تفعل ثم تقول وليس العكس. وقاموسها لا يعرف العاهات اللفظية من مثل " دراسات، مقترحات، خطط قادمة"، كما أن خططها تمتاز بوضوح الرؤية وبعد المدى يتبعها القرار الصائب، والأهم من ذلك عدم الخوف على فقدان المقعد. القرارات تتخذ من الميدان وليس من طاولة الاجتماع الفارهة. باختصار هي قيادة تجاوزت مرحلة إدارة المرؤوسين إلى إدارة الكيان بأكمله.

ستسألني عن المطلوب في المرحلة القادمة. المطلوب ببساطة هو اعطاء صلاحيات أوسع للهيئة من الناحية الهيكلية، يعني بالعربي أن توسع قاعدتها الوظيفية، بحيث تتبعها مراكز أو قطاعات متخصصة في مجال مراقبة الغذاء والدواء والخدمات والتأمين والاتصالات وبورصة الأسعار، وكل ما من شأنه سلامة المستهلك في صحته وغذائه وفكره كذلك، ومن ناحية الاختيار الحر من قبل مسئوليها للعناصر المطلوبة بالفعل والتي يمكن أن تضيف شيئاً مهماً في مجال حماية المستهلك، وليس لمجرد توظيف الكوادر الشبابية بغض النظر عن تخصصاتهم أو مستوياتهم، وتوفير الموارد المالية المناسبة كي تتمكن الهيئة من ممارسة أدوراً أكبر في مجال الرقابة والتوعية، وانشاء المختبرات والمعامل المناسبة للقيام بعمليات الفحص والتحليل، وكذلك نقل بعض الصلاحيات الخاصة ببعض الجهات إلى الهيئة كتصاريح العروض الترويجية والتخفيضات الموسمية، وحبذا لو تم دمج الجهات الفنية المتعلقة بمراقبة الأسواق والتابعة ضمن الهيكل العام للهيئة بحيث لا يكون هناك تضارب اختصاصات.

يعني بالمختصر مقعد في مجلس الوزراء ما دمنا قد اتفقنا على أن دورها لا يقل أهمية عن أدوار مؤسسات أخرى كالصحة والتعليم والإسكان والزراعة وغيرها. نتحدث الآن عن انجازات تحققت بنصف عين. تخيل وقتها ماذا سيحدث عندما تعمل بعينين مفتوحتين عن كاملهما.

د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 14 مايو 2013

"ينبئونك عن سحرها"


"ينبئونك عن سحرها"

عندما قررت إعادة اكتشاف التاريخ من خلال زيارتي لنزوى، كانت ردة فعل بعض المعارف والأصدقاء صادمة ومحبطة: نزوى؟ شو تسوي هناك؟ الناس تروح دبي وانت تروح نزوى؟ ما سادتنك مسقط ومجمعاتها؟ زين احذر لا يسحروك.

تاركاً خلفي كل تلك الترّهات، أغادر مسقط صبيحة يوم خميس خريفي سالكاً طريق الداخلية. يوماً ما كنا نمر من هنا في طريقنا إلى مسقط. كثيراً ما توقفنا للصلاة في بدبد، وكم من مرة اشترينا رطباً من فنجا، ها هي سمائل التي عرفناها صغاراً لأول مرة مع قصيدة أبي سرور الجامعي. أمر على ازكي، حيث نزار واليمن وجرنان وتاريخ يطول. هنا نشأ شاعر عظيم اسمه أبو الأحول سالم الدرمكي. بالرغم من أنه كان ضريراً إلا أنه قال قصيدة تعد من عيون الشعر العربي، والتي يقول مطلعها:  
ما بين بابي عين سعنة واليمن... سوق تباع بها القلوب بلا ثمن
تجروا بما احتكروا به وتحكموا... فجواب من يستام منهم لا ولن

أخيراً أصل إلى نزوى بيضة الإسلام وتخت العرب. محطتي الأولى سوقها القديم المجاور للقلعة والجامع الشهير. قبل سنوات طويلة من الآن كان هنا سوق عربي شهير، سوق لا يقل أهمية عن أسواق بغداد ودمشق والقاهرة، ولا ينقص أثراً عن أسواق عكاظ ودبا ومجنّة والمربد وذي المجاز.

كان السوق وقت زيارتي له خال إلا من شاب (متملل) يبيع ملابس وأحذية تم استيرادها من الصين، وشيخ ( ثمانيني ) أعطت جفونه ظلاً لعينيه، ودلت تجاعيد وجهه على قوة تاريخ عاصره، بينما تنطلق من عينيه نظرة عميقة يستحضر من خلالها صدى لأناس مرت على هذا المكان، وقوافل كانت محملة بشتى أنواع البضائع، وعبق الزعفران الأصلي الذي حل الزعفران الإيراني بديلاً له في المحل الذي يقف على بابه، وصوت مناداة الفضة والأسلحة التقليدية، ونغمة خرير الفلج وهو يتوضأ منه كل يوم، وحكاوي كثيرة عن أحداث عاصرها في ماضيه القريب، لا شيء آخر في السوق سواهما، ويبدو أن السوق سيعتزل التاريخ بعد أول وظيفة حكومية تعرض على الشاب، ووفاة العجوز بعد رحلة عمر طويلة.

في القلعة كانت محطتي التالية. لا يمكن أن تزور نزوى دون أن تعرج على قلعتها الأسطورية بشكلها الدائري الفريد. هنا تسمع حديث الجدران للأذن، من هنا مر الإمام في طريقه إلى غرفة المناجاة، وهنا كان يسقط العسل والزيت على كل من تسول له نفسه مهاجمة القلعة، وهناك كانت تخزن المؤونة. ثم يختفي الهاجس عندما ترى سائحاً أجنبياً يمر بجوارك يود أن يعرف هذه الحكاوي، وهو يتساءل: ألا يمكنني أن أعرف ما تعرفونه؟ ولا إجابة. عند خروجه منها لن يأخذ تاريخ البلد معه، ولم يعرف معنى كلمة "شهباء"، ولا كيف شق هذا البئر وسط القلعة، أو كيف نقل ذاك المدفع إلى سطحها. فقط سيأخذ معه أفكاراً مشوشة عن هلوسة جدران قديمة. لا أثر لمرشد، وكذلك لا ظل لسائح عماني. هم الأجانب وحدهم من يعرف قيمة تاريخنا.

إلى حارة العقر أتجه. هنا صنعت كثيراً من أساطير الحكايات العمانية القديمة. هنا تشم رائحة نبات النخيل المختلط بتربة الأرض، و"الأمبا" قبل استواءه، ويسيل لعابك وأنت تتأمل ثمرة "سفرجل" أو "نارنج" متدلية . هنا حكاوي وكيل فلج "ضوت" وهو يحكي عن براعة العمانيين في توزيع المياه بطرق مدروسة وبهندسة دقيقة وضعت لها ترتيبات رياضية واجتماعية محددة. من هنا مر طفل بملابسه التقليدية الزاهية وهو في طريقه إلى مدرسة القرآن التي ما زالت بقاياها حاضرة، وفي ذلك الركن كانت هناك فتيات يلعبن لعبة شعبية انقرضت الآن بعد أن حلت محلها ألعاب الكترونية جافة، بينما يسمع لصوت خلاخيلهن نغمة مميزة تنبئك عن صائغ عماني ماهر. ماذا تبقى من حارة العقر، ومتى ستلحق برفيقاتها من الحارات الأخرى بالسلطنة والتي تحولت إلى أطلال مشوهة، تسكنها الحيوانات الضالة، ويتخذ منها بعض عديمي النفوس من العمالة الوافدة أوكاراً للأعمال المنافية.

في نزوى رأيت التاريخ يتجلى في أحسن صوره، هناك في حصن سليط، وبرج القرن، ومساجد الشواذنة، وسعال، والشيخ، والأئمة، وفلج دارس وما أدراك ما فلج دارس، بسواقيه التي تمتد حاملة معها سلام قرية لقرية، وفلج (الغنتق) بعمقه الذي يروي أساطير قوة وعزيمة من حفروه، ووادي (كلبوه) حيث قبر الوارث بن كعب الذي غامر بحياته من أجل مساجينه خوفاً عليهم من اجتياح الوادي لهم وهو يقول: "أمانتي وأنا مسئول عنهم غداً" وارتمى إليهم لينجيهم مهما استطاع، فطغى عليه السيل فحمله مع مسجانيه، فذهبت حكايته أسطورة تتناقلها الأجيال.

يقولون إن نزوى ستكون عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2015، فهل ستكون مناسبة للملمة بعض ما تبقى من تاريخنا، وهل سيعصر مسئولينا بعضاً من الليمون على أنفسهم ويقررون إعادة شيئاً من الروح لهذا التاريخ. هم يسافرون كثيراً لغرض أو بدونه، لذا فلن تعيهم أفكار التطوير. تجربة قرية صغيرة من قرى أية دولة اسكندنافية بعيدة كافية لتحويل العقر أو سعال أو سمد إلى لوحة فنية مغايرة عن وضعها الحالي، فما بالكم لو أخذنا تجارب ناجحة لمدن شرقية تتشابه ملامحها مع ملامح مدننا وحاراتنا، كحارات دمشق القديمة، والقاهرة الفاطمية وغيرها. هو الفكر أولاً ثم الرغبة والإرادة.

 لو توقفت زيارات مسئولينا الخارجية مع محاسيبهم لمدة عام واحد فقط لتمكنا من ترميم نصف حارات عمان القديمة، بل ولجلبنا منها دخلاً سنوياً يمكن من خلاله أن ننفقه في مشاريع حضارية أخرى.

ترى كيف سيكون الاحتفال بهذه المناسبة، وكيف سنتعامل مع ضيوف المناسبة، هل سيسكنون في (خان) يطل على القلعة، وهل سيحتسون القهوة العمانية بنكهة ماء الورد الأصلي في مقهى تقليدي بالعقر، وهل سيتذوقون أصالة المطبخ العماني في (مسمط) بسعال، وهل سيزورون دارة محمد بن روح الكندي، وهل سيبحثون في مكتبة أحمد بن مداد الناعبي، وهل ستصيبهم الدهشة وهم يعدون أجزاء (بيان الشرع) لمحمد بن ابراهيم الكندي بأجزائه التسعين، وهل سيحضرون جلسة علم تقليدية في أحد أروقة مساجد نزوى القديمة حيث تخرجت أسماء كثيرة  أضافت الكثير للمدرسة الفكرية العمانية. أم أن الاحتفال لن يتجاوز نصب خيمة كبيرة وبعض الكراسي أمام باب القلعة وإقامة أمسيات شعرية ونقدية هنا وهناك، وبضعة زيارات لبعض المعالم، ثم ينتهي كل شيء والسلام.

نعم لقد وجدت سحراً في نزوى. ولكنه سحر من نوع آخر، هو سحر الإنسان العماني الذي شق الصخر ليستخرج الماء منه، والذي شكـّل من الطين لوحات جميلة على شكل قلاع وحصون ومدن مسوّرة، والذي حيّر العلماء بمؤلفاته التي شملت كافة المجالات والمناحي. 

د.محمد بن حمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com

الاثنين، 6 مايو 2013

ولو بشق تمره


" ولو بشـق تمرة"



تقول الحكاية المصرية الشعبية إن أحد الباشوات من ذوي الأصول التركية كان مولعاً بتربية الحمام،  فصرف عليها جل ماله حتى أفلس، وهنا اخترعت خفة الدم المصرية المثل القائل: " اللي معاه قرش ومحيره.. يجيب حمام ويطيره".

تذكرت هذا المثل الأحد الفائت حيث كنت ذاهباً إلى البنك لإجراء معاملة مالية معينة. ولأن معظم زبائن البنوك في الوقت الحالي هم من أصحاب الوجوه السمراء ذات الشوارب الكثة، والخاتم الذهبي، والهاتف المحمول فوق حزام البنطلون، ولأن هؤلاء يتمتعون بثقل دم يحسدهم عليه مندوبو إعلانات بعض الشركات،  لذا قررت الذهاب قبل موعد افتتاح البنك بنصف ساعة تحسباً لقدوم أحدهم المبكر، وخوفاً من تأخري عن العمل مع بداية الأسبوع.

وبينما البنك يفتح أبوابه، إذا  برجل في منتصف الأربعينات  من العمر، تبدو عليه علامات الضيق والكآبة، يرافقه ابن له في حوالي الخامسة من العمر، يستجدي إحدى الموظفات كي تسمح له بسحب الأربعة ريالات المتبقية له في رصيده!
وأنا أتابع الحوار الماثل أمامي وقعت عيني على خبر صحفي في الصحيفة الموضوعة على الطاولة القريبة. يقول الخبر :"قام أحد المواطنين في إحدى ولايات السلطنة بشراء ثمار نخلة (النشو)بــ1500 ريال عماني. وأكد المواطن على أن ما قام به يأتي في إطار تشجيع المزارع العماني ودعمه".

يا لغرابة الدنيا. أحدهم يأتي من الصباح الباكر منتظراً افتتاح البنك كي ( يترجى ) موظفيه بأن يسمحوا له بسحب مبلغ هزيل هو كل ما تبقى له في حسابه، ربما احتاجه لشراء حليب لطفل رضيع، أو حذاء رخيص لطفله الحافي، أو دواء لا يوجد بالمستشفى لأم عجوز، ولا يهم ما سيحدث بالغد، فهناك ربك كريم. بينما يحتار آخر  فيما يفعله بماله الوفير، فيرشده تفكيره إلى شراء خمسة عراجين (عذوق) نخل شبه مستوية، بحجة دعم المزارع العماني وتشجيعه ! وكأن الدنيا عدمت من الفقراء والأيتام والمحتاجين.
وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم أجد من يقنعني بعلاقة دفع هذا المبلغ الباهظ بتشجيع الفلاح العماني. وهل لو قام ثري آخر بدفع مبلغ مماثل لصياد اصطاد سمكة برأسين مثلاً، فإن ذلك يدخل في باب تشجيع الصياد العماني!

نحتاج أحياناً إلى التصالح مع نفوسنا. نحتاج كذلك إلى استلهام سير آبائنا ( الأميين) الذين كانوا لا يتركون مناسبة دون أن يقوموا بما يجعلهم يرضون ضمائرهم تجاه خالقهم، وتجاه أهلهم السابقين، فيخرجون الصدقات في كل مناسبة، ويقتسمون اللقمة مع الجار البعيد قبل القريب، ويعتنون بتربية اليتيم القريب وكفالته، لذا لم يكن من السهولة وقتها التفريق بين غنيهم وفقيرهم، شيخهم وصغيرهم.

يا من أعطاك الله من فضله، ويسر عليك من عطائه.. قبل أن تشتري الموديل الأخير من (الجلاكسي) تذكر أن هناك من لا يستطيع دفع أجار بيت متهالك، وقبل أن تحجز لسفرتك الصيفية تخيل وضع مواطن لا يملك شراء جهاز تكييف يخفف عليه حر الصيف وهموم دنياه، وقبل أن تزايد على شراء رقم سيارة مميز، فكر في مدى فرحة طالبة فقيرة حلمت يوماً باستكمال دراستها لولا وضع أسرتها المادي الصعب،  وعندما تفكر في الذهاب لأداء مناسك العمرة للمرة الثالثة خلال هذا العام تذكر أنك بمبلغ العمرة تستطيع أن تكسو عشرة أيتام. وقبل أن تفعل كل ذلك اسأل نفسك كذلك: هل أنت ملتزم بأداء الزكاة الواجبة؟ ومتى قمت آخر مرة  بإخراج صدقة عنك أو عن أحد من أهلك.  
ترى هل هو أمر صعب أن يفكر كل منا في كل شهر أن يتذكر جاراً أو إنساناً محتاجاً  يعرفه، فيجود عليه بمبلغ بسيط، أو يقدم له بعض المساعدات العينية الضرورية. الأمر لا يكلف سوى الرغبة أولاً، ومبلغ بسيط قد لا يتجاوز (5-10) ريالات، وهو مبلغ قد نصرفه يومياً في أمور ربما تكون أقل أهمية.

لماذا نشتري أحدث المنتجات، ولماذا نفكر في السفر، ولماذا نحرص على ارتياد أغلى المطاعم، ولماذا نحرص على الحج السنوي، ولماذا ولماذا. أليس من أجل إدخال شيء من السعادة على قلوبنا؟ إذا لماذا لا نشارك الآخرين فرحتنا. لماذا لا تعم الفرحة الجميع. تخيل وأنت تعاني من أرق ليلي أن هناك من يدعو لك الآن لأنك فرجت كربة عنه، وتخيل وأنت غارق في همّ عملي أن هناك طفلاً ترتسم على محياه السعادة بسبب قميص جديد قمت بشرائه له، وتخيل عشرات المواقف المشابهة، وهي مواقف قد لا يكلفك الكثير في سبيل صناعتها.

نعم مجتمعنا بخير، وأهل الخير كثر، والمبادرات الخيرية في ازدياد، فقط اعتبر ما كتبت أنه من باب (وذكّــر..)، فليست مهمتنا أن نريح القارئ. مهمتنا أن يطوي القارئ مقالاتنا فتبدأ متاعبه وتساؤلاته. إن مهمتنا هي تحريك الرؤوس لا إراحتها، فهل سننجح في ذلك؟

د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com