الاثنين، 25 مارس 2013

إلى بطين.. أشد الرحال (1-2)


إلى بطين.. أشد الرحال (1-2)

عندما علمت أن أستاذ الجيل أحمد بن عبد الله الفلاحي على وشك الانتهاء من كتاب جديد يتحدث فيه عن مرابع الطفولة وذكريات الصبا في قريته (بطين) أدركت أنه لن يكون كتاباً عادياً يوثق لبقعة عزيزة من عمان كحال بقية الكتب التي تناولت هذا الجانب، ذلك أن من يعرف فكر الفلاحي وأسلوبه الكتابي، أو من حضر جلساته الأدبية الشيقة سيدرك مبكراً أنه سيكون كتاباً استثنائياً جامعاً لمتع كثيرة، لذا فقد كنت أترقب بلهفة موعد معرض الكتاب بعد أن قرأت إعلانات صحفية عدة تؤكد على أن الكتاب سيكون حاضراً في هذا المعرض.

كانت علاقتي ببطين علاقة مسافر بلوحة إرشادية على الطريق، فباستثناء بعض زملاء السكن المنتمين إليها سنوات الدراسة الجامعية، لم أكن أعرف عن هذه القرية سوى أنها تقع في وادي نام التابع لولاية إبراء، وكنت أتخيلها قرية صغيرة تحيط بها بعض الجبال، وتنتشر بها عدد من مزارع النخيل ومحاصيل أخرى بسيطة، ويجري فيها فلج صغير يكاد لا تسمع لمائه خرير، وبضع مئات من السكان، قرية عمانية صرفة كبقية القرى التي تقع في داخل عمان، وتكاد تتشابه معالمها حتى لتشك أنها نشأت بطريقة (الكوبي بيست)، ثم عرفت أن الأديب الكبير الأستاذ أحمد الفلاحي ينتمي إليها فأدركت حينها أنها ليست كباقي القرى، وأنه لابد من سر يحيط بهذه القرية وإلا لما أنجبت موهبة فذة وموسوعة شاملة كأستاذنا متعنا الله بعمره.

إلى معرض الكتاب شددت رحلي تسبقني لهفتي الشديدة في البحث عن هذا الكتاب واقتنائه وقضاء سهرة جميلة بصحبته، مع إدراكي المسبق أنها ستكون سهرة قصيرة سرعان ما تنقضي مع انبلاج نور فجر اليوم التالي، فأي كتاب للفلاحي مهما كان عدد صفحاته لا يمكن أن يمكث في يديك سوى لبضعة ساعات سرعان ما تتمنى لو أن لديك خاصية (الريستور) كي تعود لقراءته مرة أخرى وكأنك تقرأه لأول مرة.

في إحدى المكتبات وجدت ضالتي ونقدت البائع مبلغه دون حاجة للفصال أو النقاش، فمن ذا الذي سيجرؤ على أن يفاصل في درة أدبية يكتبها فطحل مثل أديبنا الرائع، وأي إهانة ستلحق بالكاتب ( أي كاتب) إذا ما علم أن القارئ له يستغلي فكراً هو خلاصة تجربة طويلة مع الإبداع ، وسهر طويل مع صياغة الحرف.

وكي أقنع نفسي فقد اشتريت بلا اهتمام كبير عدداً من الكتب الأخرى هي في الغالب كتب كنت أقتنيها ثم فقدتها لأسباب مختلفة، سرعان ما غادرت المعرض بعدها باحثاً عن أقرب ركن جميل يصلح للاحتفاء بأحمد الفلاحي وكتابه، فكان اختياري على ردهة بحرية جميلة في أحد الفنادق المسقطية الراقية. ترى هل هناك علاقة بين الفلاحي والرقي؟ وهل هناك عامل مشترك بينه والبحر؟ هل هو الامتداد في كل الاتجاهات. هل هي سعة الأفق. أوليس الفلاحي بحراً من الأفكار والمعرفة وأشياء أخرى كثيرة؟ فقط يختلف عن البحر في هدوء أمواجه، وعذوبة ماءه، وصفاء منبعه.

بعد أن أكملت كافة استعداداتي لولوج عالم الفلاحي الجميل من شاي منعنع وأغنية كلثومية رائعة بصوت المؤلمة آمال ماهر، وبينما أمد يدي للبحث عن الكتاب في الكيس الذي يحمل شعار معرض الكتاب الدولي إذ بي أفاجأ بأن الكتاب غير موجود، وبعد فترة من البحث والتنبيش عنه هنا وهناك اكتشفت أنني من فرط اللهفة والفرحة باقتنائه قد نسيت الكتاب في المعرض، وأنه لا حل سوى العودة مرة أخرى أو الانتظار للغد لشراء نسخة أخرى. لن أستطيع العودة مرة أخرى اليوم، فالزحمة كفيلة بالقضاء على ما تبقى لدي من أعصاب وأنا الذي أكرهها ككره مشجع الملكي للبرشا أو العكس كي لا يزعل البقية. ما الحل إذاً؟ غداً آخر يوم وربما لا تسمح لي ظروف السفر إلى البلد بالذهاب إليه. ما الحل ما الحل. أمممم ليس هناك سوى أحد حلين: إما أن أتصل بالأستاذ وأطلب منه صراحة وبدون استحياء أن يهديني نسخة موقعة، وإما أن أذهب إلى جريدة الرؤية التي قامت بطباعة ونشر الكتاب، وهي فرصة للسلام على الأحباب الذين لم أرهم منذ بضعة أشهر بسبب ظروف الحياة المختلفة، وفرصة كذلك للحصول على نسخة من الكتاب. ولكن الأستاذ لا يحمل هاتفاً نقالاً كبقية البشر، ومريدوه لا يتركونه دون أخذه إلى ندوة هنا، أو محاضرة هناك، أو فعالية فكرية في مكان آخر. هو الحل الثاني إذاً.

على بركة الله أخذت بعضي ( لم أجد تفسيراً لهذه العبارة برغم سنوات مكوثي الأربعة في مصر) وذهبت إلى الجريدة. وبعد السلام والعتاب والسؤال عن الأحوال أعلنتها صريحة أنني أتيت للبحث عن كتاب (بطين) ولن أخرج بدونه، فكان الرد البارد كبرودة ماء الجبل الأخضر في فجر يومي صيفي: للأسف فلانة المسئولة عن المخزن غير موجودة اليوم. يعني بالعربي وبكل لغات الدنيا لن أحصل على الكتاب لأن جدولي اليومي في بقية الأيام مزدحم من فجره وحتى عشيته. هل كتب علي ألا أقرأ هذا الكتاب؟

قبل يومين من الآن وبينما كنت أتبادل أطراف الحديث مع مديري بالعمل، وهو شخصية إعلامية مرموقة يشار إليها بالبنان والسبابة والإبهام كذلك، وأعشق الحوار معه كعشقي لإفطار أمي قبل سنوات طويلة من الآن، ومنه أستقي كثيراً من أفكار شخبطاتي المتواضعة إذ بظرف (مكلبظ) يسلم إليه، وبينما هو يفتح المظروف أمامي إذ تلوح لي كلمة بطين، فما كان مني إلا أن أنتزع الكتاب من يده وأهرول إلى مكتبي تاركاً إياه سارحاً مع دهشته واستغرابه وأنا أقول في سري : على جثتي لو استطعت أن تسترجع الكتاب مني قبل الغد، وأهلاً بالمعارك إذا كان ثمن الانتصار فيها ملحمة فكرية تضيف إلى نفسك المتعبة ساعات استثنائية من السعادة الحقيقية في ظل ركام من الهموم والقلق.

هذه المرة لم أفكر في انتقاء المكان الذي سأحتفي فيه بالكتاب، فقط انتهيت سريعاً مما في يدي من أعمال، ثم اتصلت بالبيت كي أخبرهم أن لدي أعمال مهمة ستعوقني عن الحضور للغداء وهم الذين لا أشاركهم الغداء سوى مرة كل أسبوع لارتباطي المسائي اليومي بالتدريس في إحدى الكليات البعيدة عن مقر سكني، بعدها تأبطت الكتاب إلى أقرب مقهى صادفته ومع كوب الزعتر بدأت في تصفح الكتاب تارة من البداية وحيناً من النهاية، ومرات من المنتصف وكأني أقول له بالعامية المصرية (آكلك منين يا بطة)، وهي كناية عن الفرحة الشديدة واللهفة اللا متناهية تجاه الطرف الآخر أياً كان. (يتبع)

د. محمد بن حمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com

الأربعاء، 13 مارس 2013

زينب.. نحن لا نستحقك

زينب.. نحن لا نستحقك


"تابعوا أخبار العاشرة. سيعرض لقاء مع الطالبة زينب محمد فاضل الحراصية من قرية طيمساء بنزوى وحصلت على نسبة 92%  في الفصل الأول، علماً بأنها طالبة معاقة تكتب عن طريق مسك القلم بفمها".

وصلني هذا الخبر في هاتفي بينما كنت في طريقي ليلاً عائداً من رحلة عملي المضنية التي تبدأ مع إشراقة الصباح ولا تنتهي إلا عندما يغفو نصف سكان المدينة والتي تتوزع ما بين عمل مكتبي طويل، وساعات تدريس جامعية يومية منهكة، وخربشات اعلامية هنا وهناك. كنت وقتها أشعر بشيء من الضيق والتشاؤم والتساؤل الملح: إلى متى سيستمر هذا الوضع، ولماذا أنا وحدي من كتب عليه أن يعاني بينما الآخرون في راحة ونعيم.

بعد أن سكبت دموعي الزائفة قليلاً وأبديت تأثري الذي انتهى بعد دقائق من قراءة الخبر ومطالعة الصور الملحقة، طلبت من مرسلي ، بعض المعلومات عن هذه الفتاة التي تناسيت أنا وكثيراً من المثقفين المتحذلقين وجودها بيننا في وسط غمرة اهتمامنا بقضايا أخرى كنا نراها أكثر إثارة وتشويقاً.
لم تولد زينب معاقة، أصيبت بعد ذلك بمرض جعلها معاقة الأطراف الأربعة، لكن هذا الأمر لم يثنها أن تقبل على الحياة بتفاؤل وأمل، فألحت على والدها أن يدخلها المدرسة أسوة بأخواتها وبنات جيرانها.

أتى بها والدها إلى المدرسة، وفي استحياء يغلفه الرجاء طلب من المديرة أن تقبلها ولو لأيام كي لا يكسر بخاطرها ويحرمها من لحظة سعادة يمكن أن تعيشها. فما كان من تلك المديرة الفاضلة، والمربية الواعية، والنتاج الجيد لمخرجات التربية إلا أن قبلتها كطالبة، وشجعتها، ووقفت بجانبها، وكانت لها الأم والأخت والصديقة والمعلمة، وأشعرتها أن العطاء الانساني لا يوقفه عائق، ولا تحده حدود، وأن الإعاقة قد تتلاشى برغم وجودها كواقع. فقط هو التفاؤل والإصرار والإرادة والرغبة الصادقة ونبذ المستحيل. فكان الغراس على قدر التربة الخصبة، وعلى قدر الماء المسكوب عليها. كان الغراس زينباً القوية، المصرة، المتفاءلة.. زينب الأنموذج الإنساني النادر.

عذرا زينب. لن أسألك كيف كنت تمسكين بالقلم واية آلام كنت تعانيها في سبيل ذلك، ولن أسألك كيف كنت تتفوقين في الأنشطة المختلفة، فمثلك لا يسأل بل منه يتعلم أمثالي من المتشائمين. وأنت أيتها المديرة الفاضلة هل أعدت ورفيقاتك الوجه التاصح للتربوي الناجح؟ بالطبع نعم.

زينب.. اتفقت كل قواميس المعاني على ان اسمك يعني الشجرٌ حَسَنُ المنظرِ طيّبُ الرائحةِ أزهاره جميلة بيضاء اللون فوّاحة الرَّائحة، فهل خلقك الله لكي تبثي في دواخلنا شيئاً من هذا النقاء، وهل أرسلك كي تكسري فينا كثيراً من الصلف والجمود والسوداوية والتشاؤم والتبرم وقلة العطاء برغم أشياء كثيرة منحنا إياها، وبرغم ترف كبير يعيش فيه كثير منا.

عذراً زينب لأنك كشفت كثيرا من سوءاتنا.. عذراً لأنك قمت بتعريتنا أمام أنفسنا.. عذراً لأنك كشفت عن أقنعة كثيرة كان ينبغي لها أن تكشف، وعذراً لأنك أشعرتينا بأن كل ما فعلناه في حياتنا يتلاشى مع يوم مرير من أيامك التي لا يقدر الصخر على تحمل قساوتها لولا إرادة من حديد، وقدرة من فولاذ، وأمل لا ينتهي.

عذراً زينب. من أنت كي نهتم بك. لست الفنانة المعروفة، ولا مصممة الأزياء المشهورة، ولا سيدة المجتمع المرموقة. أنت مجرد زينب، فتاة بسيطة معاقة، ربما كانت نظرتنا لك على أنك زيادة لا حاجة لنا بها، أو عالة علينا. ربما كنا نمن عليك وأمثالك بحفل سنوي، أو بمناسبة بها كثير من البهرجة وقليل من الصدق، نتذكر فيها بكثير من الكذب والنفاق أن هناك فئة يجب أن نهتم بها، وأنها جزء لا يتجزأ من المجتمع، وأنها قادرة على العطاء، وأنها وأنها.. كثير من الكلام المزيف، بينما في دواخلنا ننتظر الحفل كي ينتهي، وكي نخرج من القاعة بأسرع وقت كي نبتعد عن رؤية نواظركم، وكي لا نشعر أننا سجناء مثلكم، فالحياة بالنسبة لنا هي المتعة، وهي الحرية، وهي السفر، وهي الواتساب، وهي الحبيب، وهي المقهى، وهي الملعب، وهي السينما، وهي أشياء كثيرة قد لا تستمتعي أنت بها. ثم نرفع لمسئولينا ما قمنا به من عمل انساني كبير قمنا به كي يرفعونه إلى مستوى أعلى، وكي تبرز وسائل الإعلام مدى تكافلنا وتوادنا وإحساسنا بالآخر. هل رأيت أيتها المتسامية زيفاً  أكثر من ذلك؟ لا تتضايقي أيتها الطاهرة فأنت وحدك من تقف لك ملائكتك احتراماً وتقديراً.

عذرا زينب فما زالت دموعي تنسكب وأنا أكتب هذه الكلمات. ليست دموع الشفقة، بل هي دموع الخجل، والاعجاب. الخجل عندما أتذكر ضيقي وتبرمي وامتعاضي لمجرد أنني لست سعيداً طول الوقت، وأن كل أحلامي لا تتحقق في وقت واحد. الخجل كذلك عندما يلامس قلمي قضايا زائفة كثيرة ويتجاوز حقيقة جميلة هي تجربتك الإنسانية الرائعة التي لن تستطع كل دورات البرمجة العصبية واللغوية والذاتية وغيرها، وكل الكتب الأكثر مبيعاً في العالم والتي نقبل عليها دون فهم لمعناها والتي تتناول السعادة وتطوير الذات وتنمية النفس وغيرها من العناوين البراقة. أقول لن تستطع كل تلك البرامج والكتب أن تقدم تجربة حقيقية رائعة كتجربتك، ولن يستطيع كل أولئك المدربون والخبراء والمستشارون وزملاء الأكاديميات المختلفة أن يرسموا مشهداً واقعياً واحداً من مشاهد حياتك اليومية المختلفة.

عذراً زينب.. سيحتفون بك الآن كثيراً.. ربما وجدوا فيك أخيراً خبراً صحفياً مثيراً أو مادة إعلامية دسمة. ستزعجك كاميراتهم بأضوائها الزائفة، وستبقع ثيابك حبر أقلامهم، وستصدع آذانك صوت ميكروفوناتهم، وسينوهون عنك بمواقعهم الالكترونية المختلفة وكأنك صيد ثمين سيضيف إلى هذا أو ذاك شيئاً من رصيده المهني. ولعلك تتساءلين في صدق وبراءة: لماذا اهتموا بي الآن، وأين هم عني سابقاً. هي الحياة هكذا يا زينب فلا تهتمي كثيراً وفاجئيهم كل مرة بأنك أكثر قوة وصلابة عن ذي قبل.

ترى كم من زينب بيننا قد رحلت في صمت، وكم من زينب موجودة بيننا الآن، وكم من زينب ستأتي.. عذراً زينب.. وعذراً لكثير من أمثالك. فنحن لا نستحقكم.

تحدثكم هنا زينب " أنا زينب "..
فتاة في ربيع العمر قوية عزم لا أهرب..
وقلبي قلب عصفور رقيق بالأمل يطرب..
وأحلام كثيرات بلون الحب يتخضب..

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com



الأحد، 10 مارس 2013

مقال للنفاق


مقـال.. للنفاق "

".. لم يكن في عمان إلا القليل القليل مما ينعم به الناس في البلاد الأخرى، فلا شوارع ولا مبانٍ حديثة ولا إذاعة ولا تلفزيون ولا وسائل ترفيه، وكانت الحياة بالليل  أشبه ما تكون  بما يسمى حظر التجول".

".. أول شيء تعلمته في مسقط هو أن صحة الشعب ضعيفة، والشيء الثاني الأسوأ، هو أن السبب الأساسي لذلك هو الحالة الاقتصادية.. إن الصحة هي سلعة يمكن شراؤها، ولكن لأن العمانيين لا يملكون الماء فهم لا يستطيعون شراء ذلك الشيء الثمين".

" .. كانت عمان مركزاً بغيضاً للملاريا.. أما أمراض المعدة فالمسؤول عنها هو هذا العدد الكبير من الذباب.. وينتشر الجذام في كل مكان.. بينما يعد الجدري سوطاً مدمراً فيها.. وتنتشر كذلك أمراض العيون حيث يبلغ عدد العميان في عمان الآلاف.."

" .. كنا نرى عمالقة من ذوي اللحى السوداء أتوا من بلاد بعيدة عن مسقط، أقول كنا نراهم وقد أتوا زحفاً بسبب الملاريا التي افترستهم حيث أن مسقط كانت تعج بأسراب البعوض، ولم يستطع غريب أن يهرب من الإصابة بالحمى.."

" .. هناك حقيقة يجب ألا نغفلها، وهي أننا إذا وضعنا مستشفيات أمريكا في أعيننا فلن نستطيع القول بأن ما بمطرح يسمى مستشفى.. في حقيقة الأمر ما لدينا هو منزل للعناية بالمرضى، لا يوجد راديو، ولا أسرة، ولا شيء آخر.. فقط يوجد بالحجرة ركن واحد مملوء بكيس كبير للفحم، وكمية من أخشاب الوقود، وفراش فوق الأرض، ودائماً توجد الأواني وقدور القهوة، وأهل المريض يقومون بشراء أصناف الطعام، ويقومون أيضاً بعملية الطهي في نفس المكان".

" .. وفي عمان يجب أن يشتري كل انسان من المكان المدين له، ولكن هذا النظام وصل بعدد قليل من الرجال إلى أن يصبحوا مليونيرات، لكنه جعل عدداً كبيراً منهم فقراء".
" .. أما موارد عمان فهمي شمسها وأمطارها وتربتها، فالشمس هناك تكفي مدينتين، بينما لا تكفي الأمطار مدينة واحدة. لهذا ينظر الزائر إلى عمان وهو مشفق عليها ويتساءل: لماذا يريد الناس أن يعيشوا هناك؟ ومن يستطيع أن يستخرج الحياة من هذه المنطقة المليئة بالجبال".

" .. وتعتبر الضرائب شيئاً جديداً في عمان، إذ يجب أن يزيد الدخل بعد أن انخفضت الرسوم الجمركية، ونتيجة لذلك رحل ملاك الحدائق إلى زنجبار، أو الهند، أو إلى أي مكان آخر حيث تقل الأعباء.. هكذا كان المواطن العماني محاصراً حتى في قوت يومه..".
".. إن الحياة الدنيا الوارد ذكرها في القرآن الكريم هي مسقط. أجل، أقولها صدقاً، أن الغالبية العظمى من أبناء جيلي يظنون أن مسقط هي العالم كله..".

كانت هذه عمان السابقة، لا أقول عمان في مجمل تاريخها الحضاري والفكري الممتد عبر قرون طويلة من العطاء والتأثير على بقاع عديدة من العالم، ولكني أتحدث عن مرحلة بعينها سبقت مرحلة النهضة التي نعيش في ظلها، ونرتوي من معين خيرها.

وكأني أسمع من يقول لي: لماذا كل هذا؟ ألا يعرف الناس كل ما سبق، ألم يملوا من تكراره عليهم صباح مساء، ألم يتكفل بعض (المطبلين) بالحديث عنه آناء الليل وأطراف النهار. ألم تملوا من النفاق والمزايدة.

أممم .. لا لشيء يا صديقي وأخي وابن وطني وشريكي فيه. السبب أبسط مما تتوقع، وهو أنني صحوت مبكراً لأجد أن محفظتي ونظارتي الشمسية الجديدة التي ابتعتها بالأمس، وعطري الذي أعتز به لسبب لن أخبرك عنه مازالت في مكانها برغم إهمالي المتكرر في قفل الشباك الخلفي لسيارتي، أضف إلى ذلك الجو الرائع والسماء الملبدة بالغيوم، كل ذلك أعطاني إحساساً بالتفاؤل والأمل، فأدركت برغم قراءتي لعشرات الكتب المتعلقة بالحرية والديمقراطية والاشتراكية والبعثية والعبثية والوجودية والقومية والخنفشارية والحلمنجية وسيل آخر من المصطلحات المتشابهة أنني أعيش في بلد رائع تحقق لي سياسة نظام حكمه كثيراً مما نادت به هذه النظريات ولم تطبق على أرض الواقع في معظم الدول التي تبنتها، فأردت مجاملته ببضع كلمات قد لا يقرأها غيري. هل هذا يكفي كي يكون سبباً لكل ما كتبت؟ لست مقتنعاً؟ عادي. اعتبرني منافقاً.

وأنت أيها الوطن الجميل.. لا تفرح كثيراً بكل هذا المدح، وإذا كنت قد سلمت هذه المرة من انتقادي لتصرفات (بعض) أبناءك الذين يختصرونك في مجرد عزبة لهم ولمنتفعيهم، أو يرون فيك كرسياً للوجاهة، أو مطية لتحقيق مكاسب اجتماعية أو اقتصادية دون اعتبار لشركاء آخرين يقاسمونهم فيك، فهو لأنني اعتقدت أنك تستحق شيئاً جميلاً دون منغصات ولو لمرة واحدة. اعتبرها استراحة محارب قصيرة. فلأني أحبك فسأعود عما قريب لمحاولة إزالة بعض النقاط السوداء عن ثوبك الناصع البياض. لست وحدي، ولكن برفقة كثير من الشرفاء من أبناءك مهما اختلف مسارنا الفكري، ومهما تباينت توجهاتنا الايديولوجية، فنحن تأكيداً نتفق على حبك.  

ولكن يا صديقي المعاتب.. هل ما زال "الناس مرضى في عمان، لأنه لا يوجد إلا طبيب واحد لكل مائة ألف مواطن.. وهل مازالوا جياعاً فقراء، لأنهم يجهلون شق الأرض، وإخراج الغذاء والماء.. وهل مازالوا جهلاء ، لأنه لم تفتح مدرسة يتعلمون فيها"، وهل مازالت عمان "قطعة من العالم القديم.. دجل وترﱠهات وخزعبلات.. وظلام فوق ظلام.. وأناس طيبون يروحون ويغدون"، وهل الوقت هو أرخص السلع في عمان؟ وهل عادت الأسنان تخلع بالدوبارة؟ وهل مازال الناس يأكلون المكرونة بالسكر.

هكذا كانوا يقولون.. فما رأيك أنت.

د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الأحد، 3 مارس 2013

"هل نحن فاشلون؟"


"هل نحن فاشلون؟"

"إن خطر الموت جوعاً، أو من العوز والفاقة، لا يهددان حياة ساكن الجزيرة العربية رغم كل الظروف ، فحالة ضيق ذات اليد هذه يسهم في معالجتها عاملان: أولها أهله الذين لا يسمحون له بتردي وضعه إلى هذا الحد، وثانيهما هو ذلك التقليد الصحراوي الممتع المتبع باستضافة أي عابر سبيل لمدة ثلاثة أيام. إنه مظهر رائع من مظاهر الديمقراطية في الجزيرة العربية".

جملة عابرة كتبها "هارولد ديكسون" الوكيل البريطاني السياسي في الكويت في كتابه المهم (عرب الصحراء) والذي ألفه في ثلاثينيات القرن الماضي وقدم من خلاله وصفاً حياً وكاملاً لحياة البدو في شبه الجزيرة العربية. أما الدافع لاقتباس هذه العبارة فهو المشهد المؤلم الذي رأيته بالأمس القريب وفي حوالي الساعة الثانية عشر ليلاً على رصيف شارع جانبي من شوارع العامرات. عجوز سبعينية تفترش الأرض وبيدها بضعة أكياس تحتوي على قليل من الطعام، تنادي على المارة الذين قل عددهم كثيراً في تلك الساعة  المتأخرة بأن يجودوا عليها بأي شيء، بينما دموع الألم وقسوة الزمان تبلل ردائها البالي.

لا أعلم أي شيطان قاس بداخلي ذلك الذي جعلني أتعامل مع المشهد بشيء من الحزن والألم الوقتي، ثم  نسيان كل ذلك وذهابي إلى فراشي ونومي الهانئ وكأن شيئاً لم يكن، وكأنه لا جريمة حدثت أمامي قبل قليل، علماً بأنه لم يكن المشهد الأول من نوعه، فما زال منظر  المرأة  التي رأيتها عصر يوم بارد في حي الخوير الراقي وهي تفتش في بعض الأكياس السوداء المكدسة في  مجمع قمامة كبير يجاور بناية سكنية فخمة تحتل واجهتها لافتات لعدد من المحلات والمطاعم الراقية، ماثلاً في مخيلتي، وما برح منظر الرجل الخمسيني الذي لم يجد سوى أحد الوافدين كي يستجديه طلباً للمساعدة بينما أربعة من أبناءه يرقبون المشهد في درس مستقبلي مؤلم  (يعشعش) في ذاكرتي، ومازال التحقيق الصحفي الذي نشرته إحدى صحفنا المحلية عن الوضع الانساني الصعب لامرأة طاعنة في السن لا تجد مأوى يقيها مفاجئات ما تبقى لها من أيام في رصيد عمرها يحتفظ بمساحة كبيرة من مخي الذي يوشك على التهالك من جراء أشياء كثيرة ليس أقلها مشاهد كهذه.

ترى هل أنا مبالغ وسوداوي في طرحي هذا، أم هذا هو الواقع. أوليس المجتمع مازال بخير،  أوليس هناك الكثير من أشكال التكافل والتواصل تعم مجتمعنا من أقصاه لأقصاه. أو لسنا نزور مرضانا، ونعزي موتانا، ونفرح لعرساننا، ونتذكر جيراننا في رمضان؟

ولكن ماذا عن حالات التسول الفردي والجماعي التي كنا نراها في المناسبات، وأصبحنا الآن نراها كل الحين، وماذا عن الظواهر التي نطالع أخبارها هنا وهناك  والتي تتعلق بالتفكك الأسري، أو العقوق العائلي، أو الجريمة، أو تعاطي المخدرات وغيرها من المظاهر الغريبة التي لم يعتدها مجتمعنا وتزايدت كثيراً في الفترة الأخيرة.

أولا أجد في كل هذا مبرراً لدق ناقوس خطر يهدد نسيج المجتمع وتماسكه؟وهل تعقد العلاقات الاجتماعية، وتسارع نمط الحياة، وتحسن المستوى المعيشي وبالتالي عدم الحاجة للآخر، وكذلك وجود مؤسسات حكومية تعنى بأمر بعض الفئات التي هي بحاجة إلى اهتمام ورعاية هي مبررات حقيقية تجعلنا نتجاهل  الآخر ولا نهتم به كما يعتقد بعض المثاليين؟

إذاً أين خصوصية مجتمعنا الثقافية والاجتماعية المستوحاة من تعاليم الدين الحنيف، وقيمنا العربية الأصيلة التي تستوجب علينا أن نكون أكثر حرصاً على الآخر دون أن ننتظر دوراً حكومياً، أو تدخلاً لجمعيات حقوق إنسان كما يحدث في مجتمعات أخرى انشغلت بمادية الحضارة، ولهثت وراء ما يدعى بالتطور والتمدن، حتى استيقظت على مشاكل اجتماعية كثيرة أحدثت شروخاً  وتصدعات مســت واقعها الاجتماعي. وأين تشدقنا الدائم بالتكافل والتواصل والترابط مادامت هذه العجوز أو تلك تعاني الأمرين دون التفاتة حانية، أو يد تمسح عنهن هموم الزمن وتقلباته. وأين هي ثقافة (المواطنة)  التي استنزفنا الكثير من الحبر والأشرطة في الحديث عنها ليل نهار. ترى هل كانت دموع تلك العجوز تحمل سخرية مؤلمة تجاهنا؟ هل أعلنها بأعلى الصوت أن كل خططنا في هذا المجال فاشلة وأننا جميعاً يعترينا الفشل، وأن كل ما نفعله هو مجرد (هباء) لا يساوي شيئاً ما دمنا قد عجزنا أن نجعل تلك (الأم) تنام باطمئنان ما تبقى لها من أيام عمرها؟ هل نحن فاشلون بالفعل؟ وهل يعفينا كل تقدمنا الهائل في بقية المجالات عن  تحمل مسئولية .....كهذه؟

هناك رجال أعمال خيرون؟ جميل. هناك من يحرص على الزكاة؟ رائع. هناك بعض الجمعيات التي تبذل جهوداً مجتمعية مهمة في هذا المجال؟ ممتاز. هناك خطط حكومية تستهدف بعض هذه الفئات؟ أمر مطلوب. ولكن أين البقية؟ مازالت كل هذه الأدوار خجولة ولا تتناسب مع التغير الاجتماعي المذهل في التسارع والذي يلامس كل طوبة في جدار نسيجنا الاجتماعي.

والحل.. لن أطرح أية حلول أو مقترحات. تعب كياني بأكمله من ذلك. فعلتها سابقاً في كثير من المرات ولا أحد يبالي. كل ما سأقوله هو أنه  لن تنجح كل حلول الدنيا  ما لم يكن هاجس الإحساس بالآخر يسكن بداخل كل فرد منا، وهو أمر لا يتطلب سوى مراجعة علاقتنا ببعضنا البعض، والحرص على استرجاع ما فقدناه في زحمة ما يدعى بالمدنية والحضارة.

نسيت أن أخبركم . يشير(ديكسون ) في كتابه  إلى هذه العبارة "إن الإنسان الذي لا يملك فلساً واحداً، سيكون وضعه في (لندن) أسوأ كثيراً مما لو كان في الجزيرة العربية حيث يحدوه الأمل دائماً أن يجد خيمة سوداء تستضيفه".

                                                                                د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com