الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

في ذكراه


جريدة الرؤية - الثلاثاء - 29/11/2011م
الخامسة صباحاً بتوقيت القاهرة من يوم الخميس الموافق التاسع من نوفمبر 2006، صباح قاهري بارد حيث قررت أن أخلد للنوم بعد يوم مرهق قضيته في مدينة الإسماعيلية لحضور مناقشة أخي.لم أكد أغمض عيني حتى أتى صوت هاتفي المحمول الذي نسيت إقفاله كعادتي كل يوم قبل النوم.إنه (ناصر البلال ).نعم يا أبا عبد الله، خيراً إن شاء الله. رد علي:لاشيء،أريد فقط  أن أطمئن عليك ؟أجبته وأنا أتثاءب: ولكنها المرة العاشرة التي تطمئن علي فيها منذ تركت الإسماعيلية مساء أمس،أهكذا تفعل مع من تحب؟يا حظ أصدقاءك بك.
انتهت المكالمة وعدت لنومي، ومرة أخرى أنسى إقفال هاتفي، ومرة ثانية يرن، ولكن الرنة هذه المرة  مختلفة، رسالة نصية من صديق قديم،تحمل في طياتها هذه العبارة " ناصر بن علي البلال في ذمة الله إثر حادث سير قبل قليل ". لم أعر اهتماماً للرسالة،حسبتها هلوسة بسبب الإرهاق الشديد الذي أعانيه، ومن كثر ما تردد اسم ناصر البلال في ذهني منذ صباح الأمس، ولأنني كنت قد هاتفته قبل قليل.عدت لاستكمال نومي، ولكن الرسائل النصية توالت علي كزخات المطر، حاملة نفس الخبر المؤلم .إذاً فهذا الصباح القاهري البارد لن يمر على خير، أو هو كما وصفه الصديق الشاعر محمد سالم السناني  (.. ذلك الصباح رغم بهائه ، كان التوقيت الفادح لخبرٍ أكبر من الكارثة، و أقل من القيامة. خبرٌ ظلَّ مؤجلاً في فم الغيب، و ظلَّتِ الأيامُ تهرب منه و ترفض أن تكون التاريخ المشئوم الذي يحمله).هي الحقيقة إذاً، فقد رحل الجميل ناصر بن علي البلال.
خمس سنوات منذ رحيله وأنا أسأل نفسي كلما مرت ذكراه بخاطري: هل فعلاً رحل ناصر البلال؟ ألن أجده في غرفته المتواضعة وسط مريديه يلقـــنهم دروساً في الحياة وكيفية التعاطي مع أفراحها ومنغصاتها؟  ألن أسمع صدى ضحكاته مجلجلة على ضفاف البطح؟ ألن أستمتع بالسماع لمعزوفات شعره في أمسية نظمت لشعراء مبتدئين، وأبى إلا أن يشارك، دعماً ومساندة منه لهم، ولكي يقول لهم أن الشاعر مهما كبر اسمه، وزادت شهرته، ليس له سوى التواضع. ألن أستنجد به كلما زارني ضيف (مهم) يريد أن يعرف الوجه الحضاري الحقيقي للمدينة؟
خمس سنوات مضت، وقلمي لا يطاوعني في الكتابة عنه، ماذا سأكتب عنه؟ كثيرة هي مفردات الإبداع في شخصية ناصر البلال، وقوي هو الوهج الذي كان يشع من أركان شخصيته المتنوعة المواهب والإمكانات.هذا الوهج الذي كان يشع في أي مكان حط فيه رحاله: ضحكات مستمعيه التي تفصح عن سرور القلب، حواراته الرائعة، إنسانيته المفرطة إلى حد التخلي عن كل ما يملكه لمن يحتاج إليه أكثر.
كنا  - نحن مريديه - نجلس حوله دائماً في وضع أشبه بالانكفاء حول نار تدفئنا، ووجوهنا إلى الأرض للاستماع إلى ذكرياته الجميلة، وأشعاره المعجونة بحب الأرض التي نشأ فيها وارتبط بها، وعاش عمره يدافع عن تاريخها.وكان الانبهار والذهول هو السمة التي كانت تنطبع على محيانا في كل جلسة تجمعنا به. كنا نشعر أننا أمام جامعة شاملة، وهو الرجل الذي لم يحصل على البكالوريوس.
كنت - أنا دارس التاريخ - أتوارى خجلاً أمام سعة ثقافته التاريخية، وغزارة معلوماته، وقوة حجته، وكان دائما ما يردد علي عبارته:"لقد سرقتك التربية منا"، فكنت أرد عليه: "أنت السبب. فأمامك أشعر أنني بحاجة إلى مئات السنوات الضوئية كي أصل إلى ما وصلت أنت إليه، فأصابني الإحباط، وتركت التاريخ إلى غير رجعة".
في القاهرة - والتي كان دائم التردد عليها– كانت لنا معه قصص ومواقف كلها تدل على إنسانية غير مألوفة، فهو الأب الناصح، و الأستاذ المرشد، و الصديق وقت الضيق. كنا نتبعه كالأطفال وهو يطوف بنا شوارع القاهرة وحواريها، التي كان يحفظها عن ظهر قلب، وكأنه في (مخا) أو (الرشـــة)، شارحاً تاريخها، ومعدداً مفرداتها،وكنا عندما نفتقده، نسارع في البحث عنه بين البسطاء في مقاهي محمد علي، وباب الخلق،و قسيون، والذين كان يقول عنهم إنهم أهلي وناسي هنا، برغم معرفته للعشرات من المسئولين والمشاهير من رجال السياسة والأدب والتاريخ، والذين كانوا يخطبون وده لمعرفتهم بقيمة هذا الرجل، والإمكانات الفكرية، والصفات الإنسانية النبيلة التي يمتلكها .
من مواقفه الإنسانية المتعددة أنه وجد مرة  شاباًً عربياً يعاني من أزمة مالية طاحنة، ولا يجد مأوى له ، فقرر أن يستضيفه في غرفته المتواضعة بأحد فنادق الحسين البسيطة، وإذا بهذا الشاب يرد الجميل بأن يقوم بسرقة محفظة أستاذنا وهاتفه المحمول، وجهاز الحاسب الآلي الخاص به، ويغادر الفندق إلى غير رجعه. عندما عاتبته  على إنسانيته الزائدة عن الحد، رد علي وهو يبتسم: (هذه أخلاقي، وتلك أخلاقه. الحمد لله أنني وجدت من هو أسوأ مني في هذه الحياة).هكذا كان يتعاطى ناصر البلال   بكل بساطة مع ما يعتريه من هموم وأزمات.
وفي الوقت الذي ارتقى فيه بعض المتسلقين سدة المشهد الثقافي، ونعموا من خيره، كان ناصر البلال شامخاً، يأنف أن يمد يده كي يستجدي مشاركة أو تكريماً، أو دعماً لمشروع ثقافي معين يقوم به، حتى لو كان هذا المشروع يثري المشهد الثقافي، ويضيف الكثير للمكتبة العمانية ، ومن عاصر الفترة التي قام فيها بتأليف كتابه (قبائل الجنبة وميناؤهم التاريخي صور) يعلم جيداً الجهد الكبير الذي بذله في سبيل إخراج هذا السفر المهم للنور، وحجم التضحيات،برغم إدراكه  أن الإقدام على ذلك العمل ليس بتلك السهولة، نظراً لندرة المادة الأثرية والتاريخية، أو لقلة الأبحاث التي تعرضت لهذا الموضوع.
واليوم وبعد مرور (5) سنوات على رحيله، ماذا تبقى من ذكراه؟و ماذا فعلنا من أجله باستثناء بعض الجهود (الخجولة)؟منذ متى لم نتذكره في محفل ثقافي أو إنساني معين؟
ليس قليلاً في حق شخصية ثقافية شاملة  كناصر البلال أن يتم تذكره ولو لمرة واحدة سنوياً في الملاحق الأدبية، أو في المهرجانات المختلفة التي تعنى بالأدب محلياً، أو أن  يوضع اسمه على إحدى مدارس أو  شوارع مدينته التي أحبها كما لم تحب أم ولداً لها،والتي (رسمها بذائقته الشعرية، وكما رآها تسبح ذات ليلة قمرية في الشاطئ،حورية تتهادى بسفنها الشراعية ، وبإطلالتها الوادِعَة على البحر، وبتراثها الذي ولع به ) على حد وصف الأديب محمد الحضرمي، فما قدمته هذه الشخصية الفذة للبلد ليس بالشيء القليل. يكفي فقط عشرات الأدباء الذين تتلمذوا على يديه، واغترفوا من رحيق عطاءه، وتكفي كذلك عشرات المقاطع الشعرية الوطنية التي مازال الوطن بأجمعه يتغنى بها في أعياده ومناسباته الوطنية، تكفى أشياء أخرى كثيرة لا تجد مكاناً لحصرها هنا.
من أجمل ما قيل فيه، قول رفيق دربه الدكتور سالم بن سعيد العريمي (كانت الإنسانية تتجلى بأسمى معانيها، فكان يأسر أي فرد بحديثه العذب، وقدرته للولوج في عالم الأدب والإبداع ، فقد كانت قناعاته راسخة قوية، وحججه قاطعة، وكان صادقاً مع نفسه لأبعد حد يتخيله إنسان، فعشق مدينته حتى بات يجسدها، فكان قلبها النابض، ولسانها الصادق).
ترى هل كان ناصر البلال يقصد نفسه في هذين البيتين في قصيدته (مع الأعشى في سوق صحار):
هامت بتطوافك الأشعار واعتنقت **    هذا النفار وغنت شدوك المثلۥ
هل كان تطوافك المضني لمسغبة **           فهاجها الشدو بل غنى بها الثملۥ 
كثير من الذكريات مع ناصر البلال لم أبح بها بعد، ولكني لا أجد ما أختم به هذا المقال أفضل من الرثاء الذي نعى به الشاعر والصحفي الكبير كامل الشناوي صديقه الشاعر البائس   عبد الحميد الديب :"اليوم مات شاعر تعرى، واكتست الأضرحة، جاع وشبعت الكلاب".
رحمك الله يا أبا عبد الله، وتحية من قلوب لن تنساك. 
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com


الخميس، 24 نوفمبر 2011

مواقف حياتيــة (9)


جريدة عمان -الخميس 24/11/2011م
هذه مواقف حياتية نصادفها يومياً.. نعرضها ليس من باب النقد، ولكن من أجل أن تكون الرؤية أكثر جمالاً ووضوحاً.
(1)
احتفلت عماننا الحبيبة بعيدها الوطني الحادي والأربعين من عمر النهضة المباركة . إحدى وأربعون عاماً مرت كغيمة تحمل الخير والرخاء، وما زال رذاذ نفحاتها يغمر أرجاء الوطن على اتساعه.
بفضل العلاقة الحميمية، والود المتبادل، والثقة  بين القائد وشعبه، تبوأت عمان مكانة مرموقة على الخارطة الدولية، دولة عصرية حديثة  متوازنة السياسات، تنطلق من حضارة عريقة، وماض مجيد، واضعة نصب عينها المستقبل بكافة أبعاده.
المراجعة المستمرة لكافة السياسات، والوقوف أولاً بأول على الأخطاء التي قد تنجم عن ممارسات خاطئة لبعض الجهات أو الأفراد، من الأمور المهمة التي ينبغي علينا القيام بها كحكومة ومجتمع، كي لا تتفاقم هذه الأخطاء، وكي نحافظ على مكتسباتنا التي واجهنا كثيراً من التحديات من أجل تحقيقها.
 (2)
ذكريات كثيرة طافت بمخيلتي وأنا أقرأ عن احتفال جامعة السلطان قابوس  بمرور (25)سنة  على افتتاحها في عام 1986.تذكرت أول يوم لي في الجامعة، أصدقاء الدراسة والسكن، المناشط الجامعية، الأساتذة ، الرحلات، وأشياء كثيرة جميلة شكــــلت أشياء كثيرة في شخصيتي، و ما زلت أحن إليها.
 ربع قرن مضى على إنشاء هذا الصرح العلمي الشامخ . ترى كم من أجيال قد التحقت بها، وكم من مواهب متنوعة ساهمت في صقلها وإبرازها، وكم من  شخصيات ناجحة في مختلف مجالات الحياة كانت يوماً ما طلبة في مقاعدها، وكم من حراك ثقافي شهدته قاعاتها، وكم من صداقات جميلة انعقدت بين أروقة سكنها.
نتمنى أن نرى اهتماماً أكبر في المرحلة القادمة بقضايا التنشئة السياسية والاجتماعية لدى طلاب الجامعة، وذلك من خلال تأسيس الإتحاد الطلابي، والمحاضرات والورش والندوات التثقيفية في هذا الجانب، كي نوجد جيلاً شبابياً أكثر قدرة على التعاطي مع قضايا وطنه، والتفاعل الإيجابي تجاهها.
 (3)
ذهبت لمقابلة عدد من البحــارة وصنــاع السفن القديمة، ضمن مشروع ثقافي حول التاريخ البحري المروي، فعلمت أنهم مسافرين إلى إحدى الدول الخليجية ، بعد أن أتتهم دعوة للمشاركة في إحدى المهرجانات التراثية التي تنظم هناك سنوياً، ويتخلل هذه المشاركة حفلات تكريم، ولقاءات إعلامية مختلفة، وهي ليست المرة الأولى التي تتم دعوتهم، بل سبقتها دعوات مماثلة من جهات ثقافية خارجية مختلفة، تقديراً لجهودهم، وخبرتهم الطويلة في هذا المجال.
نسخة مع التحية للقائمين على شأن الثقافة والإعلام في السلطنة.
 (4)
تبذل الحكومة جهوداً كبيرة، ومبالغ طائلة في سبيل إنشاء المشاريع الخدمية المختلفة من مدارس ومراكز صحية وشوارع وغيرها،ولكن سوء التخطيط يقلل أحياناً من قيمة تلك الجهود، ويكلف الدولة مبالغ وجهود أخرى لمعالجة الأخطاء الناتجة عن ذلك.
الأمطار التي شهدتها السلطنة في الآونة الأخيرة، وقبلها الأنواء المناخية، كشفت عن جوانب من سوء التخطيط، بعد تأثر عدد من المنشآت الحكومية بتأثيرات تلك الظروف المناخية، وذلك بسبب إقامتها في أماكن غير مناسبة.
لا أعلم لم يصر البعض على إقامة المشاريع في أماكن يعرف الصغار قبل الكبار من سكان المكان بأنها غير صالحة لذلك.
من المهم دراسة واقع المنطقة الجغرافي دراسة مستفيضة، والتواصل مع الأهالي القاطنين للمكان، قبل التفكير في إنشاء أي مبنى خدمي.
(5)
قبل أن تفكر في عقاب ابنك . تلميذك. موظفك، حاول أن تبحث عن الجوانب الايجابية الكامنة في شخصيته، فلربما كان في ذلك انطلاقة نحو تغيير جذري شامل في مسيرة حياته..وبالتالي عطاء ايجابي في المرحلة القادمة.
كم من المواهب والإمكانات فقدناها لمجرد أننا لم نستطع أن نوجهها توجيها صحيحاً.
أقول هذا الكلام بعد أن قرأت مقالة مهمة للدكتور أحمد بن علي المعشني في هذا الشأن، وبعد أن تذكرت نماذج طلابية عديدة كانت تمتلك الكثير من القدرات، وفقدناها لمجرد أننا لم نحسن التعامل معها.
(6)
تذكرني بعض الإعلانات التي أقرأها في الملاحق الإعلانية لبعض الصحف المحلية بإعلانات شبيهة بها في بعض الصحف الصفراء التي توزع في عدد من الدول.إعلانات لمنتجات غريبة الشكل والمضمون، وكلها تركـــز على نقاط ضعف معينة لدى المستهلك، وتخاطب فيه الغريزة بأنواعها المختلفة.
أين دور الجهات المسئولة عن الرقابة الإعلامية تجاه مثل هذه الإعلانات.
(7)
الأسبوع الماضي صادف الذكرى السنوية الخامسة لوفاة الأديب والشاعر والباحث التاريخي ناصر بن علي البلال.
كثيرة هي  مفردات الإبداع التي نجدها في سيرة هذه الشخصية الرائعة.كان – رحمه الله – مسكوناً بحب الوطن، وقد تجلـــى ذلك في كتابه المهم ( قبائل الجنبة وميناؤهم التاريخي صور)، وديوانه الشعري  (حورية البحر)، كما ظهر ذلك أيضاً في كثير من أشعاره ومحاضراته وندواته ، وكان مضرب المثل عند الأصدقاء في بداهته، وقدرته على الرد السريع والمُقنع، وأسلوبه الأدبي المنمــق، وقدرته العجيبة على استحضار الشواهد الأدبية، وسعة  قلبه الذي كان يستوعب البعيد قبل القريب.
سيبقى ناصر البلال شخصية ًإنسانية ًفذة ًيحبها الشعراء والروائيون،  يستعصي على مجازهم و سردهم،             و يستعصون على نسيانه .تحية من قلوب لن تنساك .
(8)
في ذكراه..أستحضر هذه الأبيات الوطنية للشاعر ناصر البلال:
تاهَتْ عَلَى الشِّعْرِ فُرْسَاناً وَمَيْدَانَــــــــــا
                                      لَمّـَا اعْتَلَى عَــرْشَهَا بِالْيُمْنِ مَـــوْلاَنَـــا
تَاهَتْ بُِكْم سَيِّدَ السَّادَاتِ وَانْتَعَشــــــــَتْ
                                          بَلْ جَدَّدَتْ ذِكْرَهَا أَصْلاٍ وَأَغْـــصَانَـــا
تَاهَتْ عَلَى التِّيهِ وَالأَنْوَارُ مُشْرِقَــــــــــةٌ
                                       وَعَــابِقُ الْمَجْدِ يَجْلــُو الْمَجْدَ رَيَّـــانَـــا
تَسَابَقَ الشِّعْرُ فِي أَرْجَائِهَا أَلَقــــــــــــــاً
                                           فَــــرَنّـِحَتْ بِـهِ سُمَّــــــاراً وَرُكْـــبَانَــــا
مَا كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ الشِّعْرَ يَسْكُنُـــــــــهَا
                                           حَتَّى تَغَنَّتْكَ آكَــامــــاً وَشُطْــآنَـــــــــــا
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com




الأحد، 20 نوفمبر 2011

للتاريخ..وكي لا ننسى


جريدة الرؤية - الاثنين - 21/11/2011م
"الناس مرضى في عمان، لأنه لا يوجد إلا طبيب واحد لكل مائة ألف مواطن..الناس جياع فقراء في عمان،لأنهم يجهلون شق الأرض، وإخراج الغذاء والماء..الناس جهلاء في عمان ، لأنه لم تفتح مدرسة ليتعلمون فيها"

كانت تلك هي  العناوين الرئيسية التي أبرزتها مجلة العربي الكويتية في تغطيتها الصحفية حول الأوضاع في عمان مع مطلع النهضة المباركة، تحت عنوان"عمان..مرة أخرى".وهي شهادة لم تكن الوحيدة التي يمكن إبرازها للحديث عن الأوضاع المختلفة التي عاشها المجتمع العماني قبل بزوغ فجر النهضة المباركة عام 1970، بل كانت هناك العديد من الشهادات المتنوعة لشخصيات عمانية بارزة قامت (جريدة الرؤية) برصدها في كتاب خاص بذلك، وهناك غيرها آلاف الشهادات التي يمكن لمن عاش عصر ما قبل النهضة أن يدلي بها، وكلها تصب حول نقطة واحدة، ألا وهي تردي الأوضاع المعيشية المجتمعية المختلفة.

في شهادته على النهضة ، عادت بالشيخ أحمد العيسائي رئيس مجلس الشورى السابق الذكريات إلى مرابع الطفولة، (..وقد تراءى بين ناظريه مشهد الأطفال المحمولين على الأعناق للدفن في (مقبرة الأطفال) في قريته (الغضيفي) بوادي عاهن بولاية صحار، فلا يمر يوم إلا وقد بني بيت جديد في تلكم المقبرة ). وهو مشهد لم يكن استثنائياً فرضته ظروف صحية معينة وقتها، بل كان دائم التكرار في كل مدينة وقرية من أنحاء الوطن، تؤكدها بيوت العزل الصحي التي كان الأهالي يقيمونها لعزل المرضى قبل عصر النهضة، والمقابر الفردية أم الجماعية  التي كانت مخصصة لدفن الأموات من جراء بعض الأمراض المعدية التي تعد اليوم من الأمراض السهلة، والتي يكفي تناول مصل بسيط للوقاية منها.

وإذا أتينا إلى مجال الثقافة، فإن  السيد برغش بن سعيد يرى أنها(..لم ترَ  بصيصاً من نور ما قبل السبعينيات إلا في كتب وصحف قليلة كانت تأتينا من مصر ولبنان، وهذه محدودة فقط للمشتركين من أبناء مسقط ومطرح)، أما الأستاذ عبد الله العليـــان فيؤكد أن قراءة الصحف (..كان الحصول عليها في تلك الفترة العصيبة ضرب من المحال، أو هي أشبه بأحلام اليقظة)، وهي شهادات كافية للحكم على مدى توافر أدوات الثقافة الحديثة وقتها.

وعن صعوبة المعيشة، وقلــــة الخيارات يشهد الأستاذ توفيق عزيز أحد الرعيل الأول من المعلمين في السلطنة أن عمان (..لم يكن فيها إلا القليل القليل مما ينعم به الناس في البلاد الأخرى،  فلا شوارع ولا مبانٍ حديثة ولا إذاعة ولا تلفزيون ولا وسائل ترفيه، وكانت الحياة بالليل  أشبه ما تكون   بما يسمى حظر التجول )،بينما يلخصها       سعادة الشيخ عبد الخالق الرواس في الجملة الآتية (.. إذا ضمنت غداءك فأنت لا تضمن العشاء )، وهي جملة تحمل في طياتها كثير من الشواهد والمعاني.

وتنقلك شهادة الشيخ مبارك بن جمعه بهوان إلى أن البحر كان قدر من يسكن على شواطئه، أطفالاً كانوا أم كبارا، فبعد الفراغ من تعلــــم القرآن الكريم وبعض مبادئ اللغة والحساب، فلا مجال أمامك  سوى البحر (..مع أننا كنا أطفالاً لا تتجاوز أعمار أغلبنا التسع سنوات، إلا أننا كنا ندرك أنّ كل رحلة سفر محفوفة بالمخاطر كغيرها من الرحلات السابقة، وقد يقدر للمسافرين عبرها مواجهة الموت ومصارعته مثلما حدث مع الكثيرين منهم.. هذه المخاطر هي التي كانت تجعل من ساعات وأيام الشهور التي تعقب السفر وحتى وصول المسافرين إلى شاطئ صور خليطاً من مشاعر الشوق واللهفة والخوف من غدر البحر وجبروته، مروراً بمشاعر السعادة والفرح التي تزين الشاطئ عند عودة المسافرين )

ولأن عمان كانت منعزلة عن العالم الخارجي ، فقد صـــــور هذا الأمر لمخيلة السيد جيفر بن سالم آل سعيد، وهو الفتى اليافع وقتها ( ..أن الحياة الدنيا الوارد ذكرها في القرآن الكريم هي مسقط. أجل، أقولها صدقاً، أن الغالبية العظمى من أبناء جيلي يظنون أن مسقط هي العالم كله..)

وعن حركة التبادل التجاري وقتها يعود السيد برغش بن سعيد ليؤكد أن الدولة (..كانت حينئذ تفرض "عشور" ضرائب، أي أن الفرد إذا  أراد أن بيع غلته الزراعية في مسقط  أو مطرح فيما يسمى (العرصة)، وهو قادم مثلاً من الداخلية أو الشرقية فإن رسوماً ضريبية يلزم بدفعها، لذلك كان المواطن العماني محاصراً حتى في قوت يومه)، وهذا  الأمر بالطبع أجبر الكثير من العمانيين إلى السفر لطلب الرزق في بلاد الله الواسعة تاركين الأهل الذين كانوا يترقبون رسائل تطمئنهم أو تحتوي على نقود تسد رمقهم.
وإذا أتينا إلى مجال المواصلات فإننا نجد في شهادة محمد العفيفي  ما يدل على سوء وضع هذا المجال   ( قرر والدي أن ينقلنا إلى البحرين، وكان ذلك عام 1957 وأذكر أننا قطعنا المسافة من نزوى إلى البريمي في اثني  عشر أو أربعة عشر يوماً، بواسطة الجمال)، وهو الأمر الذي تؤكده كذلك شهادة معالي الدكتور أحمد السعيدي وزير الصحة (.. ارتحلت من   قريتي  "القلعة" في الخابورة، إلى مدينة العين في الإمارات العربية المتحدة، وكانت الرحلة  تتراوح  بين المشي على الأقدام وركوب الحمير والجمال والسير ليل نهار  لمدة ثلاثة  أيام)، وطبعاً هذه المسافات تقطع الآن في ساعات قليلة بأحدث وسائل النقل المختلفة.
الشهادات السابقة ليست سوى جزء يسير من آلاف الشهادات الشاهدة على ذلك العصر، نوردها هنا ليس من باب النفاق أو التطبيل أو التزلف، ولكن كي نذكر أنفسنا دائماً بما كنـــا فيه، وما وصلنا إليه، وكي نرد شيئاً من الجميل الذي أسداه هذا القائد العظيم، المخلص لوطنه، الرءوف بشعبه، وكي نعترف بحجم  المنجزات التي تحققت على أرض الوطن طوال الأعوام الماضية من عمر النهضة، فما تحقق لا ينكره إلا جاحد. كثير من المكتسبات  تحققت ، وكثير من التحديات واجهتها الدولة واستطاعت التغلب عليها بفضل الإرادة القوية، والود المتبادل بين القائد وشعبه.

وبرغم تلك المنجزات والمكتسبات،وبرغم كافة الجهود المقدرة والمشكورة التي قامت بها الحكومة طوال سنوات النهضة المباركة، فلا يعني هذا أن نتوقف، وأن نتغنى بانجازاتنا، بل لابد من إكمال المسيرة، وأن نقف بين الفينة والأخرى لمراجعة سياساتنا المختلفة، ومدى توافقها مع التغيرات التي يمر بها العالم ، وأن نقف مع السلبيات والملاحظات التي قد تنجم عن تطبيق خاطئ لبعض السياسات، أو سوء تصرف من قبل مسئول ما.

ولكن.. هل مازالت عمان (قطعة من العالم القديم ..دجل وترهات وخزعبلات..وظلام فوق ظلام..وأناس طيبون يروحون ويغدون)، وهل الوقت هو أرخص السلع في عمان؟ وهل عادت الأسنان تخلع بالدوبارة؟ وهل مازال الناس يأكلون المكرونة بالسكر، كما أورد استطلاع مجلة (العربي) وقتها؟
نظرة على ما تحقق خلال الفترة السابقة من عمر النهضة  قد تكون جواباً كافياً وشافياً لكل التساؤلات السابقة. أليس كذلك؟

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

السبت، 19 نوفمبر 2011

الاهتمام السامي بالتعليم..الدروس والعبر والمؤشرات


جريدة الرؤية - السبت 19/11/2011م
(أيها المواطنون.. لقد كان التعليم أهم ما يشغل بالي وأنا أراقب تدهور الأمور من داخل بيتي الصغير في صلالة، فلما أذن الله بالخلاص من سياسة الباب المغلق كان لنا جهاد، وكان لنا في ميدان التعليم حملة بدأت للوهلة الأولى وكأنها تهافت الظمآن على الماء..إنها فعلاً كانت كذلك، ونحن بدورنا أفسحنا المجال لوزارة المعارف وزودناها في إمكانياتها لتحطيم قيود الجهل. وتعلمون مدى التقدم الذي حققته تلك الوزارة.كانت المدارس تفتح دون أي حساب للمتطلبات.فالمهم هو التعليم حتى تحت ظلال الشجر.ولم يغب عن بالنا تعليم الفتاة وهي نصف المجتمع، فكان أن خرجت الفتاة العمانية المتعطشة إلى العلم تحمل حقيبتها وتيمم شطر المدرسة.مدارس في كل جزء من أجزاء السلطنة للبنين والبنات.فالعلم ضرورة لازمة ، ولابد أن يتعلم الجميع ليسعد بهم.الوطن.ولكن هل كان بوسعنا أن نفعل المستحيل؟)

من يقرأ الخطاب السامي السابق يعتقد أنه خطاب حديث يتحدث فيه السلطان قابوس  بن سعيد (حفظه الله) عن جزء من تجربة السلطنة في مجال التعليم، ويسترجع فيه بعضاً من تلك الجهود التي بذلت في ذلك المجال ، ولكن الحقيقة أن هذا الخطاب يعود إلى العام 1972،أي بعد سنتين فقط من عمر النهضة المباركة. ومن يتأمل في فحوى هذا الخطاب يجد كثيراً من الدروس والعبر، وعديداً من المؤشرات .

كان جلالته(أبقاه الله) مصراً في جعل التعليم أولوية في سياساته، وفي نفس الوقت كان واقعياً في طرحه، فهو كان  يعلم  جيداً ظروف تلك الفترة، والتحديات الجغرافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يواجهها المجتمع العماني في تلك الفترة، لذا فقد أتى إصراره على الاهتمام بالتعليم من منطلق (..فالمهم هو التعليم ولو تحت ظل الشجر)، وتطورت ظلال الشجر بمرور الوقت إلى أن أصبحت مؤسسات تعليمية تنافس المدارس العالمية المختلفة  في الإمكانات التعليمية المتكاملة.

كما أن اهتمام جلالته بتعليم الفتاة في مجتمع تسوده  الأمية والتخلف في ذلك الوقت، والذي يرى في تعليم المرأة عيباً وخروجاً عن الأعراف والتقاليد، لهو أمر يدل على مدى تفتح الذهن ، وسعة الإدراك لدى هذا القائد الفذ، والذي اتضحت آثاره بمرور الوقت عندما أخذت المرأة العمانية تشارك شقيقها الرجل في كافة مناحي الحياة.
لم ينشغل جلالته(وقتها) بالظروف السياسية  السائدة في تلك الفترة ، ولم يتحجج بشح الموارد، بل جعل ميزانية التعليم مفتوحة، فكانت النتيجة اتساع نطاق العملية التعليمية في كل مناطق السلطنة في ظرف سنتين فقط، برغم كل المعوقات الجغرافية، وضعف وسائل التنقل والاتصال، لدرجة جعلت أحد المسئولين عن التعليم في تلك الفترة يتنقل بواسطة(البدن)، وهو وسيلة نقل بحرية قديمة، لكي يوزع حصة المدارس من الأدوات التعليمية المختلفة، وجعلت آخرين يستخدمون (الدواب)، مقدمين نماذج جميلة للتضحية في سبيل نشر التعليم لكل بقعة من بقاع هذا الوطن، مستلهمين حماسهم من قائدهم الفذ، وحرصه الدائم على الاهتمام بهذه العملية.

لم يكن هذا النطق السامي هو الوحيد في مجال الاهتمام بالعلم، بل تلته منطوقات سامية كثر، كلها تؤكد على حقيقة واحدة، ألا وهي الاهتمام اللا متناهي لجلالته بقطاع التعليم، نورد منها(..حيث أن بلادنا قد حرمت لفترة طويلة جدا من التعليم الذي هو أساس الكفاءة الإدارية والفنية ومن هنا تنشا الحقيقة بأن تعليم شعبنا وتدريبه يجب أن يبدأ بأسرع وقت ممكن )، (..إننا نهدف إلى نشر التعليم في أنحاء السلطنة، لكي ينال الكل نصيبه من التعليم وفق قدراته)، ..(إن نشر التعليم في جميع أنحاء السلطنة كان منذ البداية هدفا أساسيا نسعى إلى تحقيقه حتى ينال كل نصيبه فيه)

 كما أن جلالته كان يراهن دائماً  على دور المواطن العماني في القيام بالجهود التي يتطلبها بناء الوطن، نلمح ذلك في منطوقات سامية عديدة لعل منها (..إن بناء الإنسان الواعي القادر على تسخير مواهبه ومهاراته وطاقاته البدنية والذهنية والنفسية، هو السبيل الحقيقي إلى نجاح كل تنمية، سواء كانت اقتصادية أم اجتماعية)،  و(..إن الإنسان ـ كما نوهنا ـ دائما هو صانع التنمية وهو أداتها، مثلما هو في ذات الوقت هدفها وكل جهد يبذل في مده بالعلم النافع والمهارة الفائقة والخبرة المتنوعة هو في حقيقة الأمر إسهام قوي في تطوير المجتمع وبناء الدولة في كل مــراحل الإنسان العماني)

لم يكن جلالته ببعيد عن التطور الهائل الذي يشهده العلم كل يوم، وكذلك تسارع عمليات التنمية، لذا نلمح في خطابته وتوجيهاته ما يشير إلى مواكبة هذا التطور، منها على سبيل المثال(..وقد أصدرنا تعليماتنا للجهات الحكومية المعنية لتطوير سياسات التعليم العام والتعليم التقني والمهني بما يتناسب مع التنمية التي تشهدها البلاد).

كذلك  لا يفتأ جلالته (أعزه الله) أن يذكر شباب الوطن بأن يستفيدوا من معطيات النهضة التعليمية في تكوين الشخصية الإيجابية، والمساهمة في بناء الوطن، ولعلنا نلمح ذلك في كثير من خطاباته الموجهة لهم، ولعل من بينها(..فالتعليم يجب ألا يبقى وسيلة تثقيف الفرد فقط بل يجب أن يعنى أيضا بتكوين شخصيته حتى تلعب عمان دورا مهما في الشؤون العالمية ذلك إن التأثير المتزايد لحضارة ومدنية القرن العشرين على جوانب الحياة في بلدنا يجب أن يبدو جليا وواضحا لكل واحد منا(..إن تحصيل العلم ليس ترفا وإنما هو التزام وإسهام.. التزام بكل القيم الخيرة النيرة وإسهام جاد لا يعرف الكلل في بناء الأمة، ودعم إنجازاتها وتحقيق طموحاتها القريبة منها والبعيدة.. فهل أنتم قادرون على هذا الالتزام وهل أنتم مستعدون لهذا الإسهام.)

اتضح اهتمام جلالته بالعلم والتعليم  كذلك من خلال مواد النظام الأساسي للدولة، والذي تضمنت المادة الثالثة عشر منه  النصوص الآتية(التعليم ركن أساسي لتقدم المجتمع، ترعاه الدولة وتسعى لنشره وتعميمه)، وكذلك (توفر الدولة التعليم العام وتعمل على مكافحة الأمية وتشجع على إنشاء المدارس والمعاهد الخاصة بإشراف من الدولة ووفقاً لأحكام القانون).

ختم جلالته خطابه الأول بعبارة (فالعلم ضرورة لازمة ، ولابد أن يتعلم الجميع ليسعد بهم الوطن.ولكن هل كان بوسعنا أن نفعل المستحيل؟)

نعم يا سيدي ..لقد فعلت المستحيل، وقدمت للعالم نموذجاً مشرقاً للقائد الذي يضع وطنه وشعبه في مقدمة أولوياته..لن أتحدث سيدي عن منجزاتكم في مجال التعليم، فهي كثيرة بحيث لا يمكن لمقال أو حتى لسفر كامل أن يحصيها... هي لا تتضح فقط في الإحصائيات والمؤشرات المختلفة. بل تتضح في عيون أبناء وطنكم، وترتسم على محياهم..الشجرة أصبحت جامعة، والطفل كبر وأصبح معلماً ومهندساً وطبيباً وأستاذاً جامعياً.. والبلد بفضل كل ذلك أصبحت يشار إليها بالبنان في كل المحافل.

شكراً سيدي..لم تجعلني أغامر بركوب سفينة خشبية تقودني إلى المجهول كي أنال فرصة التعليم المسائي في إحدى الدول، بعد أن أعمل صباحاً في مهنة لا تليق بإنسانيتي وكرامتي، ولم يقطع أخي الفيافي والجبال متحملاً كل المصاعب، كي ينال نفس الفرصة، ولن أغامر بإرسال ابني مع جار قريب، أو قريب بعيد يعمل في دولة مجاورة كي أنقذه من مغبة الجهل، ولن يتغرب ابن أخي لسنوات في قرية بعيدة في أطراف صعيد مصر  تدعى (ساحل سليم) كي يجد ما يتعلمه،و لن تستقبل مدارس كراتشي ومومباي والكويت والشارقة وغيرها طلبة عمانيين.  كل هذا كان يحدث في السابق فقط.


د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com




الخميس، 17 نوفمبر 2011

محمد عبده في رائعته بات ساهي الطرف

مواقف حياتيــة (8)


جريدة عمان - الخميس 17/11/2011
هذه مواقف حياتية نصادفها يومياً.. نعرضها ليس من باب النقد، ولكن من أجل أن تكون الرؤية أكثر جمالاً ووضوحاً.
(1)
كنت في جعلان ليلة العيد، وبرغم غياب الدور البلدي، والذي تمثل في وجود فوضى تنظيمية، وعشوائية كبيرة في حركة السوق، ناهيك عن تجمعات البرك والطين في الشوارع الرئيسية والفرعية، وامتلاء تلك الشوارع بالحفر والتشققات، إلا إنني أعجبت بوجود مبادرات شبابية في مجال بيع بعض المستلزمات المتعلقة بالعيد، من ملابس وعطور وكماليات، وهي مبادرات ذكرتني بمشاريع الخريجين في بعض الدول، برغم فارق الخبرة والتنظيم.
شبابنا لديهم الرغبة الأكيدة في تقبل العمل الحر، والاستعداد الفطري لذلك  بشرط وجود التوجيه والمساندة، والتنظيم الجيد لمثل هذه المشاريع.
(2)
التقيت بهم مصادفة في جعلان بني بوعلي في ثاني أيام العيد المبارك. كانوا يتحدثون عند أحد العمال الآسيويين عندما رأيتهم، ورأيت الحيرة على ملامح ذلك العامل البسيط الذي يبدو أنه لم يفهم شيئاً من حديثهم وأسئلتهم.
مجموعة من السياح الأجانب أتوا خصيصا من صحار حيث يعملون،ً لمشاهدة (مسجد القباب) بعد أن رأوا صورة له في إحدى المواقع الإلكترونية.
أخذتهم إلى مكان المسجد، ولم  تتجاوز جولتهم حوله دقائق معدودة، فباب المسجد مغلق، ولا معلومات أو كتيبات متوافرة حوله، والفضول الزائد لبعض الصبية القاطنين بالقرب من المكان، والذي وصل لحد محاولتهم فتح أبواب السيارات دوت إذن، أزعجهم، وقرروا مغادرة المكان بعدما سألوني أسئلة تتعلق بأسباب عدم وجود لوحات إرشادية للتعريف بمواقع الأماكن السياحية، وكذلك عن بعض الكتيبات التعريفية ببعض الشواهد السياحية بالولاية، و عن إمكانية وجود شقق فندقية مناسبة للإقامة، أو مطاعم سياحية يمكنهم أن يتناولوا فيه وجبة الغداء بعد مشوار الطريق المرهق.
حاولت أن أتهرب من أسئلتهم، ومن إحساسي بالخجل من خيبة أملهم بوجود أماكن تاريخية وسياحية مناسبة للزيارة، بأن أشرح لهم بعض ما تتمتع به الولاية من مقومات سياحية طبيعية هائلة تتمثل في اعتدال جوها، وجمال شواطئها، ونقاوة رمالها الذهبية، وخرير مياه وديانها، إلا أنني أشفقت على نفسي من تكرار أسئلتهم حول الخدمات السياحية والبلدية المتوافرة بها ، فكل هذه المقومات لا تساوي شيئاً ما لم تتوافر بها أبسط الخدمات التي تتيح للسائح الاستفادة والتمتع بها.
في طريق عودتي وجدت فوجاً آخر من السياح واقفاً أمام مدخل قلعة ( آل حمودة )المنهار، وما هي إلا دقائق حتى انصرف بعدما شعر باستحالة الدخول.
بالمناسبة..من المسئول عن كل ذلك؟ هل البلدية أم السياحة أم الأوقاف أم ......ألخ
حقاً..ف"السياحة تثري"
(3)
في ثالث أيام العيد ذهبت لقضاء وقت جميل في (وادي سال)، تلك المنطقة الجميلة التي كتبت مـــرة  عنها وعمـــا تتمتع به من مقومات سياحية متنوعة. كان المنظر خلاباً يأخذ اللب ويريح النفس، فصوت خرير المياه يشكل سيمفونية جميلة محببة للنفس، ومنظر الأشجار الوارفة الممتدة على امتداد البصر يرسم لوحة رائعة ، وكثبان الرمال بأشجار الغاف والسمر المتناثرة فيها تمنحك وقتاً استثنائياً للغفوة تحت ظلالها على أنسام (الكوس)، وزقزقة العصافير.
ما يشوه جمالية المنظر هو ذلك الطريق المؤدي إلى الوادي، والذي يبدو أنه رصف على غير رغبة، فهو رقيق المشاعر لدرجة أن أية نسمة هواء، أو زخـــة مطر بسيطة، كافية لأن تقلبه رأساً على عقب، ويذهب بعض الأصدقاء إلى القول بأنه ليس طريقاً بالمعنى المفهوم، ولكنه مجرد لون أسود رش على أرض منبسطة، وتم تحديد معالمه فيما بعد على أنه شارع يخدم عشرات القرى، ويربط بين أطراف مختلفة من المحافظة، بينما يرى صديق آخر بأنه من المفترض أن يضم هذا الطريق إلى موسوعة "جينيس " للأرقام القياسية، ضمن قائمة أسوأ الطرق تصميماً.
كثير من الأرواح قد أزهقت في هذا الشارع، فلنتدارك الأمر قبل أن يستفحل، خاصة وأن الوادي سيشهد موجات زحف عائلي وشبابي طوال الأشهر القادمة للاستمتاع بما حباه الله من مقومات سياحية كثيرة.
من أبسط الأشياء البديهية التي يمكن عملها بالوادي كذلك، توفير لوحات إرشادية للقرى والأماكن والتجمعات السياحية به، ولوحات إرشادية أخرى للتحذير من ارتياد بعض البرك، أو أهمية المحافظة على الحياة الفطرية المتنوعة به، وتحديد أماكن للتخييم بطريقة تضمن الحفاظ على نظافة المكان، ومنع إنشاء(العزب) بشكل عشوائي يشوه المنظر العام، ومنع نقل الرمال وجرفها، وإنشاء منتزهات طبيعية بها بعض الخدمات الأساسية.
(4)
أصبح منظراً يومياً شائعاً أن تجد فتاة في عمر الزهور تتعلم السياقة لوحدها مع أحد أصحاب سيارات تعليم السياقة ، بالرغم من وجود عدد من المدربات النساء.
تخلينا بمرور الوقت عن كثير من القيم والعادات بسبب اعتقادنا الوهمي بتغير الظروف والتطور (والعصرنه)  لا يعفينا من أن نحافظ على بعض ما تبقى من هذه القيم.
أليس كذلك يا (بعض) أولياء الأمور؟


(5)
 (قلب مغلق للصيانة)، (عمر الميت ما ترده دموع)، (من صغري مكتوب لي الشقا). العبارات السابقة ليست عناوين لقصائد شعرية ، أو لقصص رومانسية ، أو لروايات طويلة.بل إنها جمل كتبها بعض الشباب على جوانب سياراتهم.
عشرات التحليلات النفسية كتبت حول هذه الظاهرة، ودوافع انتشارها بين الشباب، بل إن بعضهم ذهب في تحليله إلى وجود جوانب إبداع كامنة لدى هؤلاء الشباب جعلتهم يتخذون من كتابة عبارات معينة، أو لصق صور وشعارات مختلفة، كوسيلة للتعبير عن هذه الجوانب.
ما يهمنا في هذا المقال هو أن هذه الظاهرة - برغم كل دوافع انتشارها- لا تتوافق والقوانين المتعلقة بالمرور، وتساهم في وجود تشويه جمالي يتعلق باستخدام الطريق، وتشتت انتباه بعض المارة وسائقي المركبات.
(6)
من نهج بلاغة سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
صُنِ النَفسَ وَاِحمِلها عَلى ما يزيِنُها
                                          تَــعِش سـالِماً وَالـقَـولُ فـيـكَ جَميلُ
وَلا تُـــرِيـنَّ الـنـاسَ إِلّا تَــجَــمُّــلاً
                                             َنـبـا بِـكَ دَهـرٌ أَو جَـفـاكَ خَـلـيـلُ
وَإِن ضاقَ رِزقُ اليَومِ فَاِصبِر إِلى غَدٍ
                                             عَـسـى نَـكَـبـاتِ الدَهرِ عَنكَ تَـزولُ
وَلا خَـيـرَ فـي وِدِّ اِمـرِئٍ مُـتَـلَّونٍ
                                                 إِذا الريـحُ مالَت مالَ حَيـثُ تَميلُ
فَـما أَكـثَرَ الإِخوان حينَ تَعدّهُم
                                                 وَلَـكِـنَـهُم فـي الـنائِباتِ قَـلــيـلُ


د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

سلامتك نود لك سلامتك

اغنية المقدمة - برنامج المناهل AlManahel

أغنية حكايات عالمية - المقدمة والنهاية - أصالة

**مقدمة عدنان و لينا**

سنان اغنية المقدمة

افتح يا سمسم ابوابك نحن الاطفال.flv

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

العمل البلدي بين الواقع والمأمول


جريدة الرؤية - الثلاثاء 15/9/2011م
عندما تزور ولاية ما من ولايات السلطنة، وتجد تجمعات البرك والمستنقعات  المائية تملأ الشوارع والأحياء السكنية، بل وتحاصر كثيراً  من البيوت، وتلحظ تأثر الشوارع الداخلية بالحفر والتشققات، واختلاط بعضها بالطين والحجارة، من جراء هطول أمطار يفترض أن تكون أمطار خير وبركة، ولكنها لأسباب معينة، تتحول إلى كابوس يتخوف منه كثير من المواطنين، وكأن الأمر يتعلق بحدوث كارثة مناخية متوقعة.  
     وعندما ترهق نفسك خلال تلك الزيارة  بالبحث عن منتزه طبيعي أو صناعي يمكن لك أن تقضي فيه بعض الوقت برفقة عائلتك،فلا تجد سوى حدائق بدائية أحياناً، وغالباً لا تجد شيئاً ، بالرغم من أن تلك الولايات هي نفسها عبارة عن متنزهات طبيعية مفتوحة، لما تحويه من إمكانات بيئية متنوعة، تتمثل في غابات السمر والغاف المترامية الأطراف، والرمال الذهبية الناعمة، والشواطئ الرملية والصخرية الجميلة، وغيرها من تناغمات البيئة المختلفة.
       وعندما تسأل في زيارتك تلك  عن أية مكتبة عامة قد تستفيد مما تحتويه من مصادر معرفة متنوعة، فلا تجد سوى بعض الكتب التقليدية المتناثرة على أرفف بعض  المكتبات التجارية الصغيرة.
       وعندما تبحث عن مزار سياحي أو تاريخي يمكن أن تضيف زيارتك له شيئاً من المعلومات المتعلقة بتاريخ بلدك الضارب في أعماق التاريخ، فلا  تجد غالباً سوى بعض القلاع والحصون والأبراج  نصفها مهدم، والباقي ينتظر دوره، أو  بيوت وحارات قديمة حالها لا يختلف عن سابقاتها.
        وعندما ترهق عينيك الألوان المتنافرة للبيوت ، فهذا أخضر، وذاك أحمر، والثالث أزرق، وهكذا، في ظل الحديث عن مخططات سكنية حديثة، يفترض أن تنظم آلية البناء والتشييد فيها قوانين محددة تحافظ على الطابع المعماري الجمالي المحدد سلفاً.
     وعندما ترى تكدس أكوام القمامة وسط الحارات السكنية لأيام عديدة، بكل ما لذلك من تأثير ليس أقله انتشار الأمراض المختلفة، وتشويه المنظر العام، والروائح الكريهة.
           وعندما تلتقي في تلك الزيارة ببعض السياح الأجانب فتجدهم في (حيص بيص)، فهم قد قطعوا مسافات طويلة من أجل أن يتعرفوا على معالم سياحية خاصة بتلك الولاية  أبهرتهم صورها في شبكة المعلومات العالمية، فقرروا زيارتها، فتفاجئوا- بعد أن عانوا الأمرين وسألوا حتى (طوب الأرض) كي يتمكنوا من الوصول إلى أماكنها -  بأنها عبارة عن أماكن مغلقة ، فلا لوحات إرشادية تدلهم، ولا ثمة معلومات تمكنهم من التعرف على تاريخ تلك المعالم،ثم يسألونك في رجاء إن كان هناك  أي نزل، أو مطعم سياحي، حتى ولو كان (نصف نجمه) كي يأخذوا قسطاً من الراحة قبل رجوعهم من حيث أتوا خائبي الرجاء.
وعندما تتكرر هذه المشاهد في كثير من الولايات، ولو بنسب متفاوتة ، فإن  ثمة سؤال مهم يتبادر إلى الذهن ألا وهو : ما هي نظرتنا إلى واقع العمل البلدي في الولايات والمحافظات؟ وكيف يمكن لنا أن نطور من هذا الواقع، ونغير النظرة إليه؟
من الظلم والإجحاف بحق المجتمع أن نبقي على  النظرة السائدة والتي تحصر العمل البلدي  في  القيام ببعض الأعمال الروتينية كمراقبة وتفتيش المحلات والمطاعم، ورصف بعض الطرق الداخلية،  وإصدار تصاريح  افتتاح  المحلات التجارية المختلفة، والإشراف على المرادم وأماكن التخلص من النفايات، وملاحقة الحيوانات السائبة، فهذه نظرة قديمة تجاوزتها المجتمعات الحديثة منذ عقود.
   وبرأيي أن هناك الكثير من الأعمال والأنشطة البلدية المتنوعة التي يمكن للجهات التشريعية أو التنفيذية المسئولة أو المجتمعية القيام بها، وهي أعمال من شأنها أن  تجعل الولاية أو المدينة أو البلدة أكثر جمالية ورقياً، وذلك من خلال   الاهتمام  بالجوانب الجمالية كقضايا التشجير والتجميل، وتوحيد نمط العمران بما يضيف بعداً جمالياً للحي السكني، ومن ثم المدينة بشكل عام، والاهتمام بالجوانب الثقافية المتمثل في إنشاء المكتبات العامة، وإقامة المهرجانات والكرنفالات الشعبية المختلفة، ومعارض الكتاب، والندوات الفكرية المتنوعة، والاهتمام بالمشاريع الاجتماعية التطوعية التي تعزز الانتماء والولاء لدى فئات المجتمع المختلفة،  والاهتمام بجوانب الترفيه المختلفة، كإنشاء  الحدائق العامة، وتحويل بعض الأماكن البيئية إلى متنزهات طبيعية أو أماكن تخييم، وتعزيز الجوانب السياحية في المدينة، من خلال الاهتمام بالموروثات والشواهد التاريخية والثقافية للمدينة كالفنون المغناة، والحرف المختلفة، والمعالم الأثرية، واقتراح خطط للاهتمام بها والمحافظة عليها، والاستفادة من البيوت الأثرية القديمة بتحويلها إلى مزارات أو مؤسسات ثقافية وسياحية مختلفة  ، إضافة إلى الاهتمام بقضايا البيئة المختلفة، واقتراح وتنفيذ الحلول التي يمكن من خلالها أن تكون المدينة أكثر نظافة وأقل تلوثاً، وغير ذلك من الخدمات التي يصعب حصرها، والتي تدل على اهتمام بلدي حقيقي من جانب المعنيين بهذا الجانب
      إن تحقيق كل ذلك يستلزم عدة أمور لعل من بينها: مراجعة وتقييم الأعمال الحالية التي تقوم بها الجهات التنفيذية المسئولة عن العمل البلدي، ومدى مواكبتها للتطور الملحوظ في مفاهيم العمل البلدي، ومقارنتها بالأعمال التي تقوم بها بلديات المدن المتطورة في العالم، ومن ثم وضع خطط جديدة تتضمن اهتماماً ببنود التخطيط،والتوعية، وتنمية الوارد البشرية، والموازنة، بحيث نرى فكراً جديداً ورؤية أكثر بعداً وشمولية، تتجاوز المرحلة الحالية بكافة سلبياتها.
    كذلك فعلى المجالس البلدية القادمة دور مهم في تحقيق ذلك، ولعل وجود مجلس بلدي في كل ولاية ، به ممثلون لقرى وأحياء تلك الولاية، يتم انتخاب ثلثيهم، وتعيين الثلث الباقي من ذوي الخبرة والاهتمام، يتوزعون على لجان مختلفة تشمل كثيراً من المناحي المجتمعية كاللجان الاجتماعية، والثقافية، والتربوية، والمالية، والبيئية، والتخطيط وغيرها، من شأنه أن يلقي حجراً كبيراً في بحيرة العمل البلدي الراكدة، ويساهم في تغيير كثير من المفاهيم المجتمعية المغلوطة أو المغيبة تجاه نوعية وآلية هذا العمل، وبالتالي يحمل معه عملاً مجتمعياً يختلف عن سابقه، ويسهم في شمولية التنمية لكافة أرجاء تلك الولاية.
يبقى أخيراً دور المجتمع ، فنحن بحاجة إلى وجود شراكة حقيقية بين الدولة بمؤسساتها التنفيذية، وبين المجتمع بمؤسساته الخاصة وأفراده، وبدون تلك الشراكة لن نتمكن من إيجاد مجتمع أكثر تكاملاً ، ولابد لنا كأفراد ومؤسسات أن نعي أن هذا المجتمع لن يتطور بدون جهودنا، وأن  من سمات المواطنة الحقيقية المشاركة المجتمعية الصادقة التي تحقق الإضافة المهمة له، كل في مجال ميوله واهتمامه،  فبناء الوطن يستلزم التعاون الجماعي والمسئولية المشتركة، وهذا موضوع  يطول شرحه الآن، وقد أتناوله قريباً في مقال خاص به.


د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com